أُحيل فرح على المجلس التأديبي نتيجة شكوى قُدّمت عن ارتكابات مُخالفة للدعوى الرهبانيّة
ينأى القضاء المدني اللبناني بنفسه عن كلّ ما له علاقة بالأحوال الشخصيّة للمواطنين تاركاً الفصل فيها للمحاكم الدينيّة. لكن الأخطر من ذلك، هو عندما يغضّ الطرف عن جرائم ترتكب داخل هذه المؤسّسات، تحت ذريعة «خصوصيّات الطوائف»؛ التحرّش الجنسي أو البيدوفيليا، هو احدى هذه الجرائم الفاقعة التي تنتهك حرمة وكرامة قاصرين من سلطة، شاء الظرف أن تكون دينيّة، وهي مفروضة عليهم اجتماعياً وأخلاقياً. ملف الأرشمندريت باندالايمون فرح يضاف إلى ملف الأب منصور لبكي، وإلى قضية التحرّش في SOS، وملف الاغتصاب في دار الأيتام الإسلاميّة، التي كلّها من دون استنثاء أمّنت حماية للقابضين على السلطة الدينيّة ولم تنصف الضحية المُستضعفة
يتزامن يوم غد الأربعاء مع جلسة تحقيق جديدة في المحكمة الاستئنافيّة الأرثوذكسيّة، التي شكّلت خصيصاً للنظر في قضية التحرّش الجنسي بحقّ قاصرين، والمُقامة ضدّ الأرشمندريت باندالايمون فرح، رئيس دير سيّدة حماطورة (في وادي كوسبا)، التابع لمطرانيّة البترون وجبيل وما يليهما (جبل لبنان). وهي الدعوى المعلّقة منذ أكثر من ثلاث سنوات، والمُحاطة بسريّة تامّة بوصفها “شأناً كنسياً داخلياً”.
إذ تحت حجّة عدم التصويب على “الطائفة”، وإبعادها عن “شماتة الطوائف الأخرى”، ما زالت حقوق أطفال انتهكت حرمة أجسادهم وكرامتهم معلّقة حتى إشعار آخر. أطفال تعرّضوا للتحرّش الجنسي من رجل دين يمتلك سلطة مُنزلة عليهم حكماً بموجب القوانين والأعراف الاجتماعيّة.
هكذا يصرّ اللبنانيون على نبذ أي تطوّر بديهي للمجتمعات، ففي حين رسا الصراع في الغرب بين الكنيسة والدولة على صلاحية المحاكم الوضعيّة لمحاكمة رجال الدين، عبر ترك هذه الصلاحية ضمن اختصاص محاكم الدولة حصراً، ما زالت السلطة في لبنان تنأى بالدولة عن أي تطوير ينقلها نحو الدولة المدنيّة، من خلال تكريس الامتيازات الممنوحة للمحاكم الدينيّة.
جذور القضيّة
تعود القضية إلى العام 2012، عندما أُحيل فرح على المجلس التأديبي الأكليريكي بناءً على قرار صادر عن المطرانيّة الأرثوذكسيّة، نتيجة شكوى قُدّمت إليها عن ارتكابات مُخالفة للحياة المسيحيّة والدعوى الرهبانيّة منسوبة إليه. وأتت نتيجة إفصاح أحد الضحايا (كان يبلغ يومها الخامسة عشرة من عمره) للمتابع النفسي الخاصّ به، عمّا تعرّض له من تحرّش جنسي خلال “خلوات الاعتراف” مع الأب باندالايمون فرح. فتحرّكت المطرانيّة، وعيّنت المحكمة الابتدائيّة برئاسة الأب توما بيطار لجنة تحقيق في الحادثة.
أتبعت هذه الإجراءات بقرار إداري صادر بتاريخ 25/11/2013 عن متروبوليت جبيل والبترون جورج خضر قضى بـ”منع فرح من أداء الخدمة الكهنوتيّة بما فيها سرّ الاعتراف، ومن السفر، وإلزامه بالإقامة في دير سيدة حماطورة حصراً على ألا يغادره إلّا لضرورات العلاج الطبي، وأن ينحصر تواصله ولقاؤه مع الطاقم الطبي بعد موافقة المطرانيّة”. استند خضر في قراره أولاً إلى معطيات توافرت لديه من التحقيق الذي أجري وأثبت المخالفات الصارخة للقوانين الكنسية والتراث الرهباني، وثانياً إلى امتناع فرح عن المثول أمام المجلس التأديبي و”تجاهله إياه مخالفاً الأصول الرهبانيّة وتعامل رئيس دير مع المطران الذي يتبعه”.
خرق قرار خضر
لم يلتزم فرح بقرار المطرانيّة، بل أعقبه برسالة وجّهها إلى “الأخوة المؤمنين في الكنيسة الأرثوذكسيّة الإنطاكيّة” بتاريخ 8/4/2013، ينفي فيها التهم المنسوبة إليه، والتي وصفها بالباطلة والمُجحفة، معلناً سفره إلى جبل آثوس في اليونان، “تلبية لدعوة البطريرك يوحنا العاشر، وليس فزعاً أو تهرّباً من المثول أمام المجلس التأديبي، ولا للتداوي كما يشيع البعض”، وذلّل الرسالة بتوقيعه بصفته رئيس دير حماطورة في مخالفة لقرار الميتروبوليت خضر الذي أعفاه من مهامه الكهنويّة وحدّد صلاحياته براهب ناسك.
يتسلّح فرح بالخضوع الطوعيّ الذي يتنعّم به من “مجموعة المؤمنين”، وهو كما أي خضوع، في أي مجتمع بدائي، لكل مالك سلطة. فهو بالنسبة لمحبّيه أشبه بالقديس رومانوس الإنطاكي، انتقل إلى دير حماطورة عام 1993 عندما أنقذه من حريق شبّ فيه نتيجة إضاءة الشموع، فأعاد تأهيله وترميمه، كما ساهم في شراء عقارات إضافيّة وسّعت ملكيّة الدير واضافت مداخيل إليه من الاستثمار الزراعي. يُطلق عليه لقب المرنّم الكنسي الأوّل لكونه لحّن الكثير من التراتيل التي توضع خلال الصوم وعيد العذراء، ويوصف بالمصلح بين الأزواج والأب الروحي للشباب، نظراً لاحتكاكه المباشر معهم، بحكم “السهرانيات” التي كان ينظّمها في الدير، وهي عبارة عن ليالي صلاة وتأمل خلال عيد السيدة العذراء.
من يستهدف الكنيسة؟
التهم الموجّهة لفرح ليست الأولى. في بداية الألفية الثانية ارتبط اسمه بقضية متعلّقة بالمثليّة الجنسيّة ثمّ طُوي الملف، قبل أن تبرز عام 2013 قضية التحرّش الجنسي، فأُخرجت إلى العلن بوصفها “مؤامرة على الكنيسة الأرثوذكسيّة يشنّها أشخاص سيئون”. هكذا تجاوز رجال الدين حدّ السلطة الممنوحة لهم، وتجاهلوا أن الكنيسة لاهوتياً هي مجموعة المؤمنين، فغطّوا أحد المتهمين بالتحرّش الجنسي حفاظاً على هيمنتهم السلطويّة، واتبعوا سياسة الإقصاء ضدّ المُطالبين بالعدالة عبر وضعهم في خانة الأشرار.
استندت تبريرات الكنيسة الأرثوذكسية إلى مجموعة رسائل وجّهها مطلعون على القضية رداً على تساؤلات الشباب. وركّزت في دعايتها على “ضرورة إخفاء “الجرصة”، وإبعاد الطائفة عن شماتة الطوائف الأخرى”، باعتبار أن “الإنسان ليس عصياً عن الخطأ”، وأن “التوبة متاحة كنسياً”. هكذا تحصّنت بالتوبة، وتغافلت عن وجود محكمة للفصل بين ظالم ومظلوم، لتبرّر إحجامها عن إحقاق العدالة. ولم تكتفِ بذلك بل أمعنت في تشريح نظريّة المؤامرة، وردّت الأمر إلى خلافات داخليّة على السلطة، لكون فرح كان أحد المرشحين البارزين لخلافة خضر على كرسي المطرانيّة. هكذا حوّل المنطق الطائفي الجريمة الفرديّة إلى مسؤوليّة جماعيّة تتحمّلها كلّ الطائفة، التي لا يمكن أن تخضع للمحاكمة أمام مؤسّسة الدولة، في مجتمع يرسو على حافة الإنفجار الطائفي.
محكمة استئنافيّة خاصّة
برغم قرار خضر القاضي بتنحية فرح عن الخدمة الكهنوتيّة وعدم التواصل مع أحد، استمرّ الأخير في ممارسة الخدمة الكهنوتيّة وإلقاء العظات أبرزها تتمحور حول القداسة والإمساك عن الشهوات. وقدّم طعناً بالمجلس التأديبي وطلب تنحية رئيسه، كما استأنف الحكم الصادر عن المحكمة الإبتدائيّة التي وثّقت وجود ضحايا آخرين له، تعرّضوا للتحرّش لفترات طويلة، برغم علم كثيرين وسكوتهم عن هذه المُمارسات. فعيّنت الكنيسة الأرثوذكسيّة محكمة استئنافيّة خاصّة لمتابعة الملف برئاسة الميتروبوليت الياس عودة، يعاونه إثنان آخران، ومدعٍ عام.
المحكمة مستمرّة منذ نحو السنتين، برغم كون هذه القضية هي الوحيدة التي تنظر فيها، مع ما يرافق ذلك من ضغوط على الضحايا وأهاليهم لـ”ضبضبة الموضوع”. الخوف من هدر حقوق هؤلاء وهدر العدالة هو السائد، وخصوصاً أن القضاء المدني في لبنان ينأى بنفسه عن كلّ الجرائم التي تكون فيها المراجع الروحيّة طرفاً.
الميتروبوليت عودة لا يصرّح للإعلام، أمّا الميتروبوليت خضر فهو في خلوة تمنعه من ذلك، هذا ما أكدّته الأبرشيتان في اتصال مع “الأخبار”، لكن بحسب مصادر في الكنيسة الأرثوذكسيّة “القضية قيد المحاكمة التي ستنتهي قريباً”، نافية وجود مماطلة باعتبار أن “الملف أحيل إلى الاستئناف منذ نحو سنة ونصف سنة وأن الجلسات تُعقد كلّ شهر أو أكثر لإعطاء كلّ شخص حقّه في الردّ والدفاع، وخصوصاً أن قرار خضر صدر قبل أن تعلن المحكمة الابتدائيّة حكمها”، مشيرة إلى أن الكنيسة “لا تقبل ممارسات كهذه، وهي لن تسكت عنها في حال ثبوتها”.
عريضة: رجل دين ليس فوق القانون
صدر بيان موقّع من: هبة أبو الروس، ساندي جرجي، ديمتري خضر، ألكسندر رومي، بول صوان، سلمى فيّاض، أسعد قطّان، نجيب كوتيا، نيقولا لوقا، كريستل مدني، خريستو المرّ، فادي شاهين، زينة الهبر… يعلنون فيه رفضهم لاي تستير على جرائم الاعتداء الجنسي ويطالبون بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم. ومما جاء في البيان:
نحن كمواطنات ومواطنين في بلداننا، وكمنتمين إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية، قد راعنا ما ورد في وسائل الإعلام، وما سمعناه من مواقعنا المختلفة، عن حالات اعتداء جنسي بقاصرين في كنيستنا. ومع اعتقادنا بضرورة ملاحقة المرتكب، أو المرتكبين، أمام القضاء المختص، وذلك إحقاقاً لحقّ الضحايا، فقد بدا لنا جيداً ومشجّعاً أن تقوم الرئاسة الكنسيّة بخطوات جريئة نحو محاكمة داخليّة لأحد المتّهمين في إحدى الأبرشيّات في لبنان. ولكنّ المؤسف هو ما شهدناه خلال الأشهر التي تلت إعلان قرارات المطرانيّة المعنية، من خرق لهذه القرارات على يد المتهم ومطارنة وكهنة في كنيستنا.
إنّ الموقّعات والموقعين أدناه يودون التشديد على الأفكار الآتية:
أولاً: الاعتداء هو عمل قهري يسيء إلى كرامة الإنسان وجسده ولا يحترم حريته، تدينه القوانين الوضعية وقوانين الكنيسة. والأخطر بين حالات التحرش هي تلك التي يستغل فيها الجاني علاقة ثقة وضعها الإنسان اليافع فيه.
ثانياً: ثمة اختلاف بين التوبة والتأديب، فالتأديب أمر جوهري في التربية الإنسانية والقوانين الكنسية، ولا يقصد منه التشفي أو تدمير المرتكب، بل المحافظة على كرامة المعتدى عليه، ودفع المعتدي إلى سلوك نهج جديد، وهو جزء لا يتجزأ من مسيرة العودة عن الخطيئة.
ثالثاً: كل مؤمنة ومؤمن، وكل ذي موقع رسمي في القيادة الكنسية، مسؤول عن مواجهة قضايا الاعتداء الجنسي وعن الدفاع عن الضحايا بما يحفظ كرامتهم، ويحيطهم بالعناية، ويردع المعتدي. وأي سلوك دون هذا المستوى يعرض الضحية للأذى مرتين، والناس، وهم الجسم الكنسي، للأذى، عبر ترك المعتدي يمارس نشاطه الكنسي من غير رادع.
رابعاً: إن السكوت، أو السعي إلى كتم صوت الضحايا أو إخفاء الحقيقة، يُعد مشاركة في الجريمة يتحمّل كل إنسان مسؤوليتها الإيمانيّة والأخلاقيّة أمام الله ونفسه والمجتمع.
خامساً: إن القادة الكنسيين هم المسؤولون الأوّلون عن ملاحقة هذه القضيّة حتى إحقاق الحق في أسرع وقت، ما يعزّر ثقة أبناء الكنيسة فيهم.
سادساً: إن من حق المؤمنين الذين يعلمون بحقيقة الاعتداءات، وأولئك الذين يشكّون فيها، أن تأتي نتائج المحاكمة علنية، لتعميق الوعي والعمل على حماية أشخاص آخرين يمكن أن يقع عليهم الضرر مستقبلاً.
سابعاً: رغم وجود قناعة راسخة لدينا بأن هذه القضية محقة، إلا أننا، ومن دون أن نطلق حكماً على المتهم، نحث القضاء الكنسي على الإسراع في المحاكمة، لأن سرعة التقاضي حق في كلّ قوانين العالم، والإبطاء فيها يفاقم الآثار النفسية والاجتماعية على الضحية وعلى المجتمع والجسم الكنسي.
ثامناً: إذا كان المعتدي جنسياً رجل دين، فهذا لا يعطيه صكاً ليكون فوق القانون والمحاسبة. لذا، مؤسّسات الدولة والقضاء، مطالبة بالقيام بواجباتها كاملة لحماية الأحداث والبالغين من الاعتداء الجنسي، ومحاكمة أي شخص يقوم بمثل هذا الارتكاب.
تاسعاً: تشكّل هذه القضية مناسبة لنطلق الصوت عالياً، كي يلتقي الفاعلون، من الطوائف والانتماءات الفكرية المختلفة، للعمل على تغيير البنى السائدة في مجتمعنا، والتي تجنح إلى إسكات صوت الضحية عوضاً من إعلائه، ما يسهّل ممارسة الاعتداء الجنسي في المؤسّسات الدينية وخارجها بلا رادع.