بعد أربع سنوات على سقوط صنعاء، وفي وقت احتدمت معركة الحديدة بأبعادها الاستراتيجية، نجد أنّه كان هناك استيعاب خليجي لخطورة الحدث الصنعاني، الذي صار عمره أربع سنوات، ولأبعاده. دقّ الاحتلال الايراني، عبر «أنصار الله»، لصنعاء جرس الإنذار في الخليج العربي كلّه. هناك استيعاب لخطورة الحدث ليس على الصعيد اليمني فحسب، بل على صعيد المنطقة كلّها أيضاً. وهذا ما يفسّر جانباً كبيراً من التحرّك العربي في اتجاه إقامة شبكة أمنية متكاملة في المنطقة تحمي دولها وتشمل الدول المطلة على البحر الأحمر، خصوصاً دول القرن الأفريقي. توّج هذا التحرّك الخليجي بالقمة التي انعقدت في جدّة برعاية الملك سلمان بن عبد العزيز قبل أيّام قليلة. شهدت القمّة، التي كانت «حدثاً تاريخياً» باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، توقيع اتفاق سلام بين الرئيس الإريتري أسياس أفورقي ورئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد علي الذي يمتلك عقلاً متطوراً بالفعل.
جاء اتفاق السلام تتمة للمصالحة بين البلدين بعد قطيعة، ذات طابع عبثي، استمرّت عشرين عاماً. دفع في اتجاه تلك المصالحة، أي في اتجاه العودة إلى لغة المنطق، الشيخ محمد بن زايد وليّ العهد في أبو ظبي الذي لعب دوراً محورياً في ترتيب اللقاء الذي انعقد بين أفورقي وآبي أحمد علي في أسمرة في تموز (يوليو) الماضي تمهيداً للقمة الثلاثية التي انعقدت في أبو ظبي لاحقاً استعداداً للقاء جدّة برعاية العاهل السعودي.
قبل السيطرة الكاملة للحوثيين على صنعاء، كان علي عبدالله صالح، الذي عاد إلى العاصمة اليمنية من رحلة علاج طويلة في المملكة العربية السعودية، أوّل من تنبّه إلى خطورة وضع «أنصار الله» يدهم على المدينة وما سيترتب على ذلك. قبل أيّام من بلوغهم العاصمة التي زحفوا إليها عبر محافظة عمران، بعث الرئيس اليمني الراحل الذي اغتاله الحوثيون في الرابع من كانون الأوّل (ديسمبر) 2017 برسالة إلى الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي، دعاه في الرسالة التي نقلها أربعة من قياديي «المؤتمر الشعبي العام»، هم يحيى الراعي وعارف الزوكا وسلطان البركاني وياسر العواضي، ما زال ثلاثة منهم أحياء يرزقون، إلى التصدي لـ«أنصار الله» في عمران. رفض عبد ربّه الذي كان يسيطر على الجيش اليمني سيطرة شبه تامة النصيحة رفضاً كلّياً. اعتبر انّ تصفية حسابات قديمة بين علي عبدالله صالح والحوثيين ليست من مهمّاته. كشفت الأحداث أن منطق الرئيس الانتقالي لم يكن منطقاً سليماً، وأن المسألة لم تكن مسألة حسابات شخصية لعلي عبد الله صالح فقط. كانت لدى الرجل الذي حكم اليمن ثلاثة وثلاثين عاماً حسابات مرتبطة بما سيفعله الحوثيون في مرحلة لاحقة. كان هدفهم اليمن كلّه وليس الشمال وحده.
لا يمكن الفصل بين اليمن والمشروع الإيراني الذي واجهته «عاصفة الحزم» ابتداء من آذار (مارس) 2015، أي بعد ستة أشهر من استيلاء الحوثيين على صنعاء وإعلان زعيمهم عبد الملك الحوثي عن قيام نظام جديد يستعيد النظام الإمامي ولكن بغطاء إيراني.
ليست عملية إعادة ترتيب العلاقات بين إريتريا وأثيوبيا سوى خطوة مهمّة بين خطوات أخرى تصبّ في اتجاه بناء منظومة أمنية متكاملة تغطي كلّ طرق الملاحة في المنطقة ومحيطها. ما قامت به المملكة العربية السعودية عبر قمة جدّة، ذات الأهمّية الاستثنائية، يُشكّل أساساً لسياسة جديدة تقوم على أخذ المبادرة في التصدي لإيران ومشروعها التوسّعي.
قبل كلّ شيء، تفتح المصالحة بين إريتريا وأثيوبيا الأبواب أمام تعاون مع جيبوتي وإعادة ترتيب أوضاع الصومال. لا يمكن لخطوات من هذا النوع إلّا أن تنعكس إيجاباً على انخراط السودان بشماله وجنوبه في إطار حماية الأمن الإقليمي. في مرحلة لاحقة لا يمكن لمصر إلّا أن تكون شريكاً في كلّ هذه الترتيبات التي يمكن أن تستفيد منها الدولة العربية الأكبر على غير صعيد. من بين ما يمكن أن تستفيد منه مصر مزيد من التنسيق مع السودان وأثيوبيا في تقاسم مياه النيل بشكل لا يضرّ أي دولة من الدول التي يمرّ فيها هذا النهر الذي يُشكل شريان الحياة لها. فوق ذلك، ثمة مصلحة لمصر في إقامة أفضل العلاقات مع دول القرن الأفريقي لأسباب مرتبطة بالملاحة في قناة السويس. أمن البحر الأحمر جزء لا يتجزّأ من الأمن المصري لا أكثر ولا أقلّ.
في ضوء كلّ هذه المعطيات، لم تكن قمّة جدّة التي أسفرت عن توقيع اتفاق سلام أثيوبي- إريتري برعاية سعودية مجرّد حدث عابر. إنهّا دليل على وجود نيّة في الذهاب بعيداً في إقامة شبكة أمنية متكاملة تحمي مصالح دول المنطقة. مثل هذه الشبكة، الممتدة من بحر العرب إلى خليج عدن إلى البحر الأحمر، في حاجة إلى إنهاء معركة الحديدة في أسرع ما يمكن. فكلّما مرّ يوم، يتبيّن كم أن الحديدة مهمّة لإيران والحوثيين من نواح ٍعدّة. من بين هذه النواحي القدرة على استخدام الميناء من أجل اعتراض سفن أو ناقلات في البحر الأحمر. يحدث كلّ ذلك في وقت تسعى إيران إلى امتلاك أكبر عدد من الأوراق، التي تعتبرها أوراق ضغط، تستطيع استخدامها في الردّ على الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية الجديدة التي تمسّ بتصدير النفط ابتداء من الأسبوع الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.