«تأمّل هناك أني حصدت رؤس الورى وزهور الأمل
وروّيت بالدم قلب التراب وأشربته الدمع حتى ثمل
سيجرفك السـيل سيل الدماء ويأكلك العاصف المشتعل».
(أبو القاسم الشابي)
في التاريخ الهليني تظهر أخبار مدينتي أثينا وسبارتا بشكل بارز في مجال المقارنة بينهما. أثينا كمدينة أسّست مفهوم الديموقراطية، وإسبرطة كمنظومة عسكرية إنعزالية. ما ميّز إسبرطة في نجاحها الحربي هو نظامها الهرمي الداخلي المبني على الفصل الطبقي العنصري، على غرار ما فعله أبناء عمومتهم الآريون عندما غزوا شبه القارة الهندية فسيطروا عليها، رغم كونهم أقليّة عددية، ما دفعهم إلى بناء حواجز اجتماعية وسياسية لتجنّب الذوبان ضمن الأكثرية. وهذا النظام ما زال قائماً في الهند حتى يومنا هذا، إلى حدّ ما.
في إسبرطة أسّس الغزاة الدوريون (الإسبرطيون) نظاماً طبقيّاً سياسيّاً وإجتماعيّاً. كانت الطبقة الحاكمة تحتكر السلطة ووسائل القتال والحرب. الطبقة الثانية كانت حرّة، لكن من دون حقوق سياسية وكانت تهتم بالتجارة. أمّا الهيلوتس، فقد كانوا أحفاد المهزومين والمقهورين، وكانوا أقناناً تملكهم الدولة.
رغم نظام الفصل العنصري، حافظ الإسبرطيون داخل المجموعة العرقية المهيمنة على ديموقراطية داخلية كاملة، تساوى فيها أفراد الطبقة العسكرية بشكل استثنائي. لكن، من أجل الحفاظ على هذا النظام، أصبح أفراد هذه الطبقة محاربين من المهد إلى اللحد. وعزّز تماسكها الداخلي المساواة بينهم وسيادة نظام الجدارة.
إسرائيل دولة تشبه اليوم إسبرطة القديمة. في خضم حرب 1948 تأسّست دولة إسرائيل وجرّدت الفلسطينيين من ممتلكاتهم. حذّرت الفيلسوفة اليهودية هانا أرندت يومها من أنّ الدولة اليهودية، بحكم طريقة إنشائها وموقعها الجغرافي ضمن أكثرية ديموغرافية معادية سوف «تتدهور» لتصبح مثل «إسبرطة». فقد تأسّس كلّ منهما عن طريق غزو الأراضي وإخضاع السكان الأصليين وتجريدهم من ممتلكاتهم. غزا الإسبرطيون أراضي يونانية وأخضعوا السكان الأصليين وجردوهم من ممتلكاتهم. كذلك احتلّ الصهاينة فلسطين، وأخضعوا وجرّدوا السكان العرب من ممتلكاتهم. أقام كلّ منهما إحتلالاً عسكريّاً دائماً على السكان الأصليين كطبقة دنيا مضطهدة قانوناً في دولة فصل عنصري. في إسبرطة أصبح السكان الأصليون «هيلوتس» عبيداً وأقناناً، فيما تراوحت حالة الفلسطينيين بين مواطنة من الدرجة الثانية إلى سجناء في معسكر اعتقال في غزة.
ما يجمع الهيلوتس بالفلسطينيين الإستغلال والاضطهاد الاقتصادي. الفلسطينيون محاصرون اقتصادياً بالقيود وباستمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية ونزع الملكية. لكن هدف الأسبرطيين كان استغلال الهيلوتس في القنانة، أمّا هدف إسرائيل فهو التطهير العرقي.
في تقاليد إسبارطة كان إذلال الهيلوتس وإرهابهم للخضوع بشكل وحشي عملاً مستداماً من قبل الجنود. ويتعرّض الفلسطينيون كذلك للإذلال والتعسّف والعنف المتكرّر بشكل طقسيّ، تنفّذه القوات الإسرائيلية عند نقاط التفتيش وفي السجون، ومعسكرات الاعتقال الإداري. كما يحاول الجيش إرهاب الفلسطينيين من خلال مداهمات دورية لتسوية الأحياء واصطياد الناشطين. وللحفاظ على حالة تأهّب دائم لدى مواطنيهما، كان على إسرائيل وإسبرطة العيش في حرب دائمة مع تهديد خارجي لتسويغ عسكرة الدولة والتخفيف من إمكانية التعاطف الإنساني حتى لا تهبط الروح القتالية. من هنا هروب إسرائيل المستمر منذ سنة 1948 من احتمالات عمليات السلام مع جيرانها أو أيّ تسوية مجدية للإحتلال.
كانت إسبارطة مرعوبة بشكل دائم من أن تقدّم القوى الأجنبية الدعم للهيلوتس للتحرّر، ومن تحوّل العبيد إلى «طابور خامس». لدى إسرائيل المخاوف ذاتها بما يتعلّق بالفلسطينيين. فرض ذلك سياسة خارجية عدوانية للغاية، ساهمت في حروب، ساخنة وباردة، مباشرة وبالوكالة، ضدّ مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق وغيرها. لكن إسرائيل لديها شيء إضافي يجعلها أكثر خطورة مما كانت عليه إسبارطة، ذلك بسبب التأثير الكبير الإسرائيلي على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ما جعل من إسرائيل قوّة تدمير في العالم العربي الإسلامي تحت رعاية القوى العظمى.
إنتصار إسبرطة على أثينا جعل منها إمبراطورية كبيرة بعد الحرب البيلوبونيسية. وهكذا صارت إسرائيل بعد غزو الضفّة الغربية وقطاع غزّة ومرتفعات الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء بعد حرب 1967.
من أجل ضمان القوّة القتالية لمخزونها السكاني، حافظ الإسبرطيّون على برنامج تحسين النسل الصارم، فكانوا يلقون بالرضع «غير المناسبين» في الوادي، وكانت الطفولة بالنسبة للمواطن معسكراً تدريبيّاً طويلاً، وكانت مرحلة البلوغ حملة عسكرية دائمة. كان هذا النظام المتشدّد مصدر إلهام رئيسي لمدينة أفلاطون الفاضلة، وبالتالي مصدر إلهام لعدد لا يحصى من الأنظمة الشمولية الحديثة. لم تسلك إسرائيل بعد هذا الطريق في ما يتعلّق بمواطنيها اليهود، رغم أنّ اليمين المتشدّد صار يصف الإسرائيليين المسائلين للسياسة الاستعمارية بالخونة اليهود، وهو ما ينذر بتحوّل هذا المجتمع إلى الشمولية بالرغم من الليبرالية الاقتصادية والإجتماعية السائدة حتّى الآن.
هانا أرندت حذّرت أيضاً من أن إسرائيل التي وُلدت من رحم العداء، من شأنها أن تتحوّل إلى واحدة من تلك القبائل المحاربة الصغيرة المعزولة والمكروهة، أي حياة قاتمة وقاسية وخالية من الجمال والإنسانية والتعاطف. إسرائيل اليوم وصلت إلى ذلك الوضع وعلى الأقلية الواعية من شعبها أن تجاهر في مقاومة وحشية صهيونيتها بشكل فاعل، والعمل من أجل التعويض والمصالحة مع الفلسطينيين والمحيط. لكن هذا قد لا يحدث أبداً، ما لم يبدأ الشعب الأميركي بمقاومة دعم واشنطن غير المشروط لإسرائيل.