ليؤذن لي بهذه التسمية «المسألة القضائية» لأن القضاء، في لبنان، في وضعٍ لا يُحسد عليه. إذ بات كلّ من يشاء قادراً أن «يستوطي حيطه» ويقول فيه ما قاله مالكٌ في الخمرة. وهذا بـ»فضل» مجموعة من القُضاة تحوّلوا إلى سماسرة وأزلام عند الذين عيّنوهم في مواقعهم، فأساءوا إلى السلطة القضائية التي عُرِفت، في الماضي القريب والبعيد، وتُعرف حتى اليوم (رُغم سواد المرحلة)، بأن فيها قُضاةً أعلاماً، وهم أصحاب العلم والثقافة والفقه والأحكام التي تُضرب الأمثال بها. وعُرِفوا على الأخص بتمتّعهم بالأخلاق والنزاهة وبياض الكفّ.
ولفتني، في الآونة الأخيرة، الكلام الصادر عن القاضي الرئيس شادي القردوحي، الذي لا أعرفه شخصياً، ولكنني عرفت المرحوم والده، الوجه البيروتي الناصع محمد رشيد القردوحي، الذي غدر به المرض باكراً فيما كان لا يزال في عزّ عطائه… كما لفتني إعلان الفاتيكان أحد القُضاة طوباوياً.
فلقد غرّد الرئيس القردوحي معلناً اعتكافه عن حضور جلسات محكمة الجنايات المنتدَب إليها «إلى حين مراعاة القانون» وعدم التمييز، معتبراً أن القضاء في لبنان بحالة موت سريري، داعياً الانتفاضة القضائية لأن تتحوّل إلى ثورة قضائية، مضيفاً أنه نزل عن قوس محكمة الجنايات، مقاطعاً الجلسات، لأنه وصل إلى «القرف»، مُسجّلاً أن القانون ممنوع تطبيقه في حق أصحاب النفوذ، حتى في جنايات القتل العمد.
وفي مشهدٍ مقابل، صدر عن حاضرة الفاتيكان أن البابا فرنسيس الأول أعلن القاضي الإيطالي الراحل روزانو ليناتينو طوباوياً على طريق القداسة. وكانت المافيا قد اغتالت هذا القاضي في جزيرة صقلية، قرب منزله، قبل أكثر من عقدَين، فاعتبره المجمع المقدس «شهيد العدالة والإيمان» ولم يكن يوقفه ترغيب أو ترهيب… وبلغ به الإيمان بقضيته حدّ التوافق مع خطيبته على أن يفترقا حبّياً لأنه لم يشأ أن يؤسس عائلة تنتقم منه المافيا فيها. وكان شعاره الأثير «إن إحلال العدالة مثله مثل الصلاة وتكريس الحياة لله». وقد رفض المواكبة والحماية.
وكنا أشرنا هنا، في غير «شروق وغروب»، إلى أن لا إصلاحَ حقيقياً إلا إذا قادهُ قضاةٌ صالحون.