في مسيرة الأحزاب يُعتَبرُ الجهاز التنظيمي المنضبط والهيكلية الإدارية المنتظمة، من الأسرار التي تقود الحركة الحزبية الى التطوّر والإنتصار.
وليس من الأسرار القول: إنَّ حزب القوات اللبنانية أصبح اليوم أبرز حزب مسيحي يمتلك الهيكلية التنظيمية المتفوّقة، وقد اكتسبها الدكتور سمير جعجع أوْ سلبَها من حزب الكتائب اللبنانية الذي كان عضواً فيه.
إنها الماكينة الإنتخابية الكتائبية الذائعة الصيت، ورثها الدكتور جعجع مثلما ورث قاعدة الحزب الشعبية بفعل سقوط الكتائب في مستنقع التجارب، وشبكات التشابك والإنتفاضات العسكرية التي تصارعت فيها أجنحة القوات، بعضُها على بعضها، وبعضها على الحزب، بعد غياب المؤسِّـسَيْن : مؤسّس الكتائب ومؤسِّس القوات.
منذ أن تسلّم الدكتور جورج سعاده رئاسة حزب الكتائب، والشيخ أمين الجميل رئاسة الجمهورية، كانت هناك انتفاضات باردة بينهما أحدثت إرتجاجات في البنية الإدارية وتلاعباً بالهيئة الإنتخابية الكتائبية.
وعندما تسلّم الدكتور إيلي كرامة رئاسة الحزب إرتُكِبَتْ أخطرُ حماقة بطرد أبرز ركنـين من أركانه: لويس أبو شرف وإدمون رزق.
وعندما تسلّم كريم بقرادوني الرئاسة أصدر قراراً بطرد الرئيس أمين الجميل من الحزب، مثلما أصدر الرئيس أمين الجميل قراراً بطرد نفسه من فرصة نادرة هيَّأَها له المناخ الحزبي والشعبي بعد عودته من باريس، في غياب العماد ميشال عون في المنفى وسمير جعجع في السجن، ثم استمرت حملة الإقصاء وتهجير مَنْ تبقّى من فرسان الطاولة المستطيلة الذين كانوا يتحلّقون حول الرئيس المؤسس، والذين بهم يستعيد الحزب مكانته المنهوبة ودوره الريادي وقيادته الشعبية.
وجاءت الحلقة الكتائبية الأخيرة عهد الشيخ سامي الجميل بما يشبه الإنقلاب الكامل من جيل على جيل، ومن نهج على نهج ومن تاريخ على تاريخ.
بفعل هذا المسلسل الإنتحاري، واستعمال الخناجر للطعن في البطن على الطريقة اليابانية، تفكَّكتْ آلة الكتائب التنظيمية وقاعدته الحزبية التي شارفت على الستين ألفاً من الحزبين، وتبعثرت قاعدته الشعبية التي بلغت حـدّ اجتياح مساحة الوطن فأَمَّـنَتْ للكتائب يومها نحو عشرة في المئة من مقاعد المجلس النيابي، يوم كان للمجلس النيابي قيمة تقاس بحجم الرجال، ويوم كان للصوت الإنتخابي قيمةٌ تُعطى لمن ينطق في أفواههم الصوت.
على هذه الفريسة الجريح إنقضّت الطيور الجارحة، مع انقضاض السلاح وأموال السلاح والمرافيء والصندوق الوطني، وكان نـزاعٌ على السلطة والمال وعلى حصر إرث الكتائب ومصادرة قواعده ورصيده الشعبي.
بعد الصراع الماروني – الماروني وحروب الإلغاء إرتدَّتِ القواعد الشعبية المسيحية عن القوات اللبنانية بفعل مسلسلٍ متراكم من الإنتهاكات والممارسات الجائرة هيمنةً وابتزازاً، فمَنحَت التيار الوطني الحر كل أصواتها الإنتخابية بما يشبه معاقبة القوات على دورتين إنتخابيتين سابقتين.
ولكنّ التطورات السياسية والعسكرية التي انبثقت مما يعرف «بالربيع العربي» بما رافقها من صراع سني – شيعي مسلّح، ومن حركات تكفيرية استهدفت المسيحيين تهجيراً وتنكيلاً.
هذه التطورات – وفي ظل انعدام الثقة بقدرة الدولة اللبنانية على حماية أبنائها – إنعكست هواجس مسيحية متضخّمة، فانكمش حيالها المسيحيون بقشعريرة قلق مصيري، وراحوا يتطلعون الى تنظيم مسيحي مؤهَّل للدفاع عنهم بقوّة السلاح، فكان الإقبال على القوات اللبناينة ذات الإختصاص.
من هنا نرى، أن صفوف القوات لم تقتصر على العوام من الشباب، بل انضمت الى صفوفها مجموعات من المثقفين وأصحاب الكفايات والنُـخَب، في ظاهرة تخطَّتْ العرف الكلاسيكي للإنتماء الحزبي في لبنان، ولا أعتقد أن الدكتور جعجع، ولا أظن أنه يدَّعي امتلاك فكر أنطون سعاده العقائدي، أو قامة بيار الجميل القيادية.
حسبه أنه عرف كيف يقتنص الفرص، وكيف يستخدم آلـة الكتائب التنظيمية، وكيف يستوعب قاعدتها، وكيف يستغل فلسفة الرئيس أمين الجميل المقتبسة من فلسفة سقراط الذي لم يعمل في حياته إلاَّ لأجل الآخرين.
مبروك جعجع.