حتّى قبل دقيقة من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحبَ الجزء الأساسي من قوّاته في سوريا، لم يسمع أحد من دمشق أو من أروقة سفارات موسكو في العالم، شيئاً عن نيته بهذا الخصوص. لقد كانت خطوتُه مفاجئة لكلّ المراقبين للوضع السوري.
خلال الأسابيع الماضية كان الهمس المسرّب من مصادر روسيّة ديبلوماسية وحتى استخباراتية، يتركّز على مواضيع محددة ليس بينها وجود تفكير بانسحاب من سوريا، وكان أبرزها كلام عن تركيا غير الراغبة في تغيير موقفها السلبي من الأزمة السورية، واهتمام بمتابعة الموقف في اليمن ولبنان، وذلك في اتّجاهين: ماذا يريد الحوثيون بالضبط حتى تستطيع موسكو مساعدتهم للتوصّل إلى تسوية مع السعوديين؛ وماذا تريد الرياض فعلياً من لبنان، وأيضاً اهتمام روسيّ مستجدّ بالوضع الليبي انطلاقاً مِن رصد انتشار تنظيم «القاعدة» فيها.
… وحتى هذه اللحظة لم يظهر أيّ مؤشر يؤكد أنّ حزب الله لم يكن من بين القوى التي تفاجأت بقرار بوتين. وفور إعلان الاخير قرار الانسحاب، انهالت اتصالات المستفسرين على دوائر القرار الإعلامي والسياسي في الحزب لمعرفة خلفيات القرار الروسي. وكان الرد أنّها متفاجئة مع المتفاجئين.
ولكن في الحزب يوجد تقليد راسخ، مفادُه أنّ أمينَه العام السيّد حسن نصرالله هو الذي يخرج في اللحظة المناسبة ليعلنَ موقفَ الحزب من الاحداث الكبرى، ويحدّد ما إذا كان الحزب على عِلم مسبَق بقرار بوتين أم أنّه تفاجَأ به.
ثمّة تقدير استنتاجي لدى مصادر متابعة للحزب يفيد بأنّ نصرالله قد يخرج قريباً في إطلالة تلفزيونية ليتحدّث عن مرحلة ما بعد قرار بوتين في سوريا، وعن خلفياته ورؤية الحزب له من كلّ جوانبه، بما في ذلك صيرورة اتّخاذ موسكو له، وما إذا كانت نسّقته مع حلفائها أم لا.
وحتى الآن لا يوجد محضَر اجتماع كامل وموثوق يفصّل طبيعة الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية الروسي بوغدانوف للحزب واجتماعه بالسيّد نصرالله خلال فترة إعلان الاخير مشاركتَه العسكرية في سوريا.
ولاحقاً سُرّب عن بوغدانوف قوله إنّ نصرالله أخبَره أنّه «فيما لو تقاعسَ حزب الله عن التدخّل فإنّ النظام قد يَسقط». وتوحي هذه المعلومة بأنّ زيارة بوغدانوف كانت لاستطلاع رأي نصرالله عن السبب الذي يَحدوه للتدخّل العسكري المباشر في سوريا وليس لدعم النظام.
لقد مرّت – بحسَب متابعين مطّلعين – رؤية الحزب للتدخّل الروسي العسكري في سوريا منذ بدئه حتى الآن، بمراحل عدة: الأولى تتّصف بأنّها مزيج من الأسئلة أو التساؤلات والرضى. أسئلة حول حقيقة الخلفيات الإقليمية والدولية التي أدّت إلى إنتاج قرار «عاصفة السوخوي». في الحزب سادَ اقتناع – أو ربّما تمنّيات – بأنّ موسكو اتّخذَت قرارها بشنّ عاصفة السوخوي من دون تنسيق عميق مع الولايات المتحدة الاميركية.
كان التحليل السائد في الحزب يقول إنّ واشنطن لم تعُد الدولة العالمية الأحادية، وإنّ في مقابلها بدأت تظهَر دول – أقطاب، وأنّ روسيا – كما الصين وإيران- هي إحداها.
لكن خلال الأسابيع الأولى من التدخّل الروسي، تكوّرَت كرة ثلج التساؤلات الهامسة داخل حزب الله أكثر فأكثر، وكان يمكن تلخيصها بمجموعة معلومات متوافرة للحزب لا يوجد تأكيدات حاسمة في شأنها، ولكن توجد مؤشّرات ميدانية تدعَم صدقيتَها: المعلومة الأساسية والأخطر تفيد أنّ موسكو حدّدت لإسرائيل «فضاء» أمن عمليات عاصفة السوخوي في سوريا الممنوع على سلاح الجوّ الإسرائيلي الاقتراب منه.
ولاحظ الحزب هنا أنّ مساحة هذا الحظر لا تشتمل على لبنان، علماً أنّ سماء لبنان تُعتبر عسكرياً جزءاً من إشعاع أمن القواعد العسكرية الروسية المنتشرة في ساحل سوريا. واستتبع هذه المعلومة سؤال عمّا إذا كانت روسيا تترك الفضاء اللبناني لإسرائيل، أو عمّا إذا كانت إسرائيل ستفهَم التصرّف الروسي على أنّه «رفع باط» روسي عن أيّ سلوك عسكري إسرائيلي عدواني في لبنان.
لقد تعاظمَ اللغط حينَها حول هذه النقطة، أقلّه داخل أطُر الحزب الوسطى، خصوصاً عندما شنّ الطيران الاسرائيلي غارات جوّية عدة ضد مواقع حزب الله في سوريا أو في مناطق لبنانية متاخمة للحدود السورية.
ومضمون التساؤل الذي كان يمكن سماعه آنذاك داخل الحزب، هو عمّا إذا كانت هذه الاعتداءات تعكس وجود تفاهم إسرائيلي – روسي على تحديد قواعد للاشتباك في سوريا لا يُعتبر حزب الله داخله.
وضمن هذا السياق، كانت عملية اغتيال إسرائيل لعميد الأسرى سمير القنطار داخل دمشق، مثّلت ذروةَ هذه التساؤلات. ولم يخفّف من ذلك استبعاد سيناريو أن تكون اسرائيل اغتالت القنطار بصاروخ أطلقَته من الأرض السورية المحتلة، وليس بإرسال طائرة اخترقت دائرة الإشعاع التي حدّدتها موسكو كفضاء لأمن قواعدها الجوّية وحركة عمليات طائراتها الحربية.
في هذه الفترة ، كان لحزب الله ملاحظات أخرى على عاصفة السوخوي تندرج في خانة أنّها تقنية وليست سياسية. ومفادُها عدم وجود المقدار الكافي من التنسيق بين سلاح الجو الروسي والقوات الحليفة له التي تتقدّم أو تعمل على الارض، ما يصعّب فرصة إحراز نتائج ميدانية.
نظرية الحزب في هذا الخصوص، قالت إنّه عدا إسرائيل وأميركا، فإنّ أيّ جيش في المنطقة لم يُجرِ مناورات لتنسيق جهده القتالي في الميدان مع دولة أجنبية كبرى. وعليه توجد مشكلة تنسيق بين القوى العسكرية البرّية الحليفة للنظام السوري وسلاح الجو الروسي. أمكن لاحقاً الأخذ بملاحظة حزب الله من قبَل مصمّمي عمليات عاصفة السوخوي الروسية في سوريا.
المرحلة الثانية يمكن تسميتُها بمرحلة الرضى، وسياقها البياني الزمني متداخل مع مرحلة التساؤلات التي تنشب ثمّ تهدأ، ولا يزال حالها حتى الآن. العامل الرئيس في مرحلة «رضى حزب الله عن عاصفة السوخوي»، يتمثّل بتقدير موقف استراتيجي يقول إنّ تدخّل بوتين العسكري حسَم كلّياً فرضية عدم إمكانية إسقاط النظام السوري عسكرياً.
إختبارات طبيعة قرار بوتين
وسيحاول حزب الله، كما النظام السوري وإيران، اكتشافَ أبعاد قرار بوتين بتخفيف قوّاته في سوريا، انطلاقاً من التطورات التي سيَشهدها الميدان السوري، وليس من خلال التطمينات الكلامية. ففي حال سُمِحَ للمعارضة السورية باستغلال التراجع العسكري الروسي للتقدّم في اتجاه الارض التي خسرَتها منذ أيلول الماضي، فسيعني ذلك أنّ بوتين تقهقر سياسياً في سوريا، أو أنه على الأقلّ لم يحصل كما يُشاع على ضمانات اميركية بعدم السماح للمعارضة باستغلال هذا التطوّر العسكري الاستراتيجي.
أمّا في حال بقيَت الجبهات على حدودها الحالية، ودافعَ ما تبقّى من سلاح الجو الروسي عنها، فإنّ هذا سيؤشّر إلى أنّ قرار بوتين منسّق دوليّاً من أجل دعم خيار الحلّ السياسي ودفع النظام إليه ولو بثمن أكبر ممّا يريده.
أمر آخر تريد الجهات الآنفة التأكّد منه وهو أنّ بوتين لم يساوم على موضوع بقاء الأسد، وذلك في ما بات يسمّى «الحوار الرباعي» غير المعلن الذي سبقَ الجولة الثانية الحاليّة من مفاوضات جنيف السورية، وشملَ تركيا والسعودية وأميركا وروسيا، وتَركّز حول موضوع واحد هو سُبل نقلِ السلطة في سوريا. بعض المعلومات تفيد أنّ موسكو شاركت في «الحوار الرباعي» بانتقاء بديل للأسد، وبعضها الآخر يقول إنّها بقيَت عند موقفها بأنّ الشعب السوري هو الذي يختار.
ولكن يظلّ السؤال عن سبب موافقة موسكو على إبعاد إيران عن «الحور الرباعي». وجدير بالملاحظة أنّ إيران كانت وجّهت في عزّ لحظة الكلام عن الاجتماع الرباعي، رسالةً إلى أطرافه، وذلك عندما نشرَت وسائلها الإعلامية تصريحاً لمسؤول إيراني أعلنَ فيه: «أنّ بقاء الأسد هو خطّ أحمر عند خامنئي».
ثلاثة أهداف لبوتين
وبات واضحاً الآن أنّ هناك اعتباراً مباشراً أساسيا وثلاثة اعتبارات استراتيجية تقف رواء قرار بوتين تقليصَ وجوده العسكري في سوريا، بحسب ما تؤكّده مصادر ديبلوماسية:
يتمثّل الهدف المباشر بتلبية أحد أبرز شروط السعودية وتركيا والمعارضة السورية للقبول بدور روسيّ في التسوية السورية، وحتى الدخول في مفاوضات جدّية حول الأزمة السورية، وقوامه أن يخفّف بوتين، أقلّه من قبضته العسكرية الداعمة للنظام داخل المشهد السوري، لأنّ بقاءَها سيُبقي ميزان القوى حول طاولة مفاوضات جنيف مختلّاً بكامله لمصلحة النظام؛ وبالتالي لن تكون واقعية الموافقة على الانخراط في تسوية للأزمة السورية، في الوقت الذي يشهد الميدان السوري طرفاً غالباً وآخرَ مغلوباً.
أمّا الاعتبارات الثلاثة الاستراتيجية فهي:
ـ الاعتبار الاوّل، ينطلق من حرص بوتين على عدم تكرار تجربة افغانستان في سوريا. ويرى الكرملين انّ هذا الاحتمال سينشب برأسه في حال تخلّف بوتين عن حصدِ نتائج سياسية لعاصفة السوخوي في الفترة الممتدة حتى موعد الانتخابات الاميركية، لأنه بعدها لا أحد يَضمن انّ الرئيس الاميركي الجديد سيستمر في مفهوم شراكة لافروف ـ كيري.
وفي نظر بوتين انّ ضمان عدم تحوّل سوريا افغانستان جديدة ضد روسيا، تكمن في توفير أمرَين اثنين: الاوّل، استمرار تنسيقه السياسي لحلّ الأزمة السورية مع البيت الابيض. الثاني عدم تمكين الاقليميين في المنطقة من التحالف ضده مجتمعين في سوريا. وفي هذه الحالة فإنّ الدورالعسكري الروسي في سوريا لن يصمد حتى لو كان مغطّى برضى أميركي عنه.
والواقع انّ هذين المحظورين بدأا بالبروز أخيراً. من جهة لوحِظ تقارب إيراني ـ تركي في سوريا أساسُه رفضُهما الدورَ الكردي. وأيضا دخول ولاية أوباما ربع الساعة الاخيرة، ما يهدّد في المدى القريب استمرارَ التنسيق الروسي ـ الاميركي. وعليه أصبح الوقت اكثرَ مِن ملِحّ لانتقال عاصفة السوخوي من مشهدها العسكري الى مشهدها السياسي.
ـ الاعتبار الثاني، رغبة بوتين بضمان انّه في سوريا تجاوز عقدة ليبيا، وهو يرى انّ هذه اللحظة هي الوقت المناسب لتأكيد هذا الضمان، حيث إنّه يستطيع الاطمئنان الآن الى أنّه في سوريا يقود عملية سياسية دولية لإنتاج حلّ لأزمتها، بينما في ليبيا كان يَلهث وراء خديعة جعلته أحد ضحايا العملية السياسية الدولية فيها.
ـ الاعتبار الثالث، إقناع الاقليميين والدوليين بدور سياسي لروسيا في الأزمة السورية، وهذا يتمّ من خلال إقناعهم بأنّ موسكو تقاتل في سوريا من أجل نَيلها اعترافاً بمصالحها فيها، وليس لهدف آخر حتى لو كان رأس النظام السوري. وتكمن مصالحُها تحديداً في ضرب الإرهاب وإنتاج استقرار فيها يؤمّن مصالحَها ولا ينتج تهديدات لها.
هل هي لحظة بداية افتراق كبير، أقلّه على مستوى الأهداف التكتيكية المهمّة بين حزب الله وروسيا في سوريا؟ أم أنّ المصالح بينمها لا تزال لها صِلات وصلٍ أقوى في مجالات أخرى؟