جرى الاستفتاء الكردي. هذا حدث تاريخي على صعيد الشرق الأوسط كلّه، لكنّه لا يعني أن الدولة الكردية المستقلّة ستبصر النور غداً. لا تزال الطريق أمام قيام الدولة الكردية المستقلة شائكاً، لكنّ الأكراد يجدون أن من الأفضل لهم التفاوض مع الحكومة المركزية في بغداد من موقع قوّة، أي بعد إجراء الاستفتاء، هذا إذا كان في بغداد من يريد بالفعل التفاوض.
كان صعباً تصوّر مسعود بارزاني يصمد في مواجهة الضغوط التي تعرّض لها من أجل تأجيل الاستفتاء على الاستقلال الكردي. لكنّ بارزاني صمد، على الرغم من تقديم تنازلات تتناول ملف كركوك الشائك. حرص على القول إن الاستفتاء «خطوة أولى لشعب يريد الاستقلال» كما أن الاستفتاء لا يعني رسم حدود الدولة الكردية. أين ستكون كركوك في حال استقلّت كردستان؟
تكمن صعوبة القرار الذي اتخذه رئيس إقليم كردستان والقاضي بالتمسك بموعد الاستفتاء في حجم الضغوط ونوعية الأطراف التي مارستها. ليس سهلاً الاستخفاف بالمعارضة التركية لخطوة
بارزاني، خصوصاً بعد اعتبار أنقرة، على أعلى المستويات، أن مثل هذه الخطوة تهدّد «الأمن الوطني» لتركيا. ليس سهلاً أيضا رفض الرضوخ للضغوط الإيرانية التي تحمل في طياتها تهديداً بترك «الحشد الشعبي»، أي الميليشيات المذهبية العراقية التي في إمرة طهران، يدخل في مواجهة مع قوات «البيشمركة».
فوق ذلك كلّه، جاء الموقف السلبي للإدارة الأميركية من الاستفتاء. وهذا الموقف المفاجئ يعكس غياباً لأي استراتيجية لواشنطن في الشرق الأوسط والخليج وحالاً من الضياع لم يبددها الخطاب الأخير للرئيس دونالد ترامب في الأمم المتحدة.
كان الموقف الطبيعي لرئيس إقليم كردستان في ظلّ هذه الضغوط والتهديدات التراجع في انتظار أيام أفضل يمكن فيها تمرير الاستفتاء في ظلّ نوع من التواطؤ الدولي والإقليمي. لكنّ بارزاني لم يعد يمتلك مثل هذا الخيار لسببين على الأقلّ. الأوّل أن تأجيل الموعد سيعني انتحاراً سياسياً بالنسبة إليه، بل بالنسبة إلى كلّ ما يمثله مع أفراد عائلته وعشيرته على الصعيد الكردي. أمّا السبب الثاني، فهو عائد أساساً إلى أنّه ليس معروفاً هل ستتوفر في يوم من الأيّام ظروف افضل تسمح بإجراء الاستفتاء الذي أعدّ بارزاني المسرح الكردي له إعداداً جيّداً.. أو هكذا يُفترض.
هناك نقاط عدّة تجعل من موقف بارزاني، الذي خطب في أربيل، قبل ثلاثة أيام من الاستفتاء ليعلن أن لا تراجع عنه، ثم أكد ذلك عشية يوم الاستفتاء، موقفاً منطقياً وقويّاً ومتماسكاً في الوقت ذاته. إنّه موقف منطقي وقويّ ومتماسك، على الرغم من ثغرات عدة في طرح بارزاني، في مقدّمها القنبلة الموقوتة التي اسمها كركوك.
في مقدّم نقاط القوّة لدى بارزاني أن أي طرف من الأطراف المعترضة على الاستفتاء لم يعطِ مبرراً منطقياً واحداً لتأجيله. حسناً، تأجل الاستفتاء، هل على الأكراد انتظار معطيات جديدة تسمح لهم مجدداً بطلب الاستقلال؟ ما هي هذه المعطيات الجديدة، التي ليست متوافّرة اليوم والتي ستتوفّر غداً والتي ستسمح للقوى الإقليمية والدولية بالموافقة على إجراء الاستفتاء الكردي والقبول بنتيجته؟ بكلام أوضح، من يستطيع تحديد موعد مناسب للاستفتاء؟
أكثر من ذلك، هناك من لا يزال متمسّكاً بوحدة العراق لتبرير الدعوة إلى تأجيل الاستفتاء، علماً أن هذه الوحدة صارت مجرّد نكتة أكثر من أيّ شيء آخر. انهار العراق عملياً في اليوم الذي قررت فيه الولايات المتحدة تسليمه على صحن من فضّة إلى إيران. لعلّ نقطة القوّة الأساسية، التي تعمل لمصلحة الاستفتاء، أن تجربة الشراكة في السلطة كانت تجربة فاشلة.
بعد العام 2003 وسقوط نظام صدّام حسين، قامت في العراق دولة هشّة سيطرت عليها بشكل تدريجي الميليشيات المذهبية التابعة لأحزاب عراقية تابعة عملياً لإيران. ما لبثت هذه الميليشيات أن تحوّلت إلى ما يُسمّى «الحشد الشعبي» الذي يُشكل بديلاً من المؤسسة العسكرية العريقة. ما لا يمكن تجاهله أن الجيش العراقي تأسّس في العام 1921. ما استطاعت إيران عمله هو تغيير طبيعة هذا الجيش كي لا تقوم له قيامة في يوم من الأيّام من جهة، وكي يكون في كلّ وقت تحت سيطرة «الحشد الشعبي»، تماماً كما حال الجيش الإيراني مع «الحرس الثوري» من جهة أخرى.
لم يجد الأكراد مكاناً لهم في الدولة الدينية التي أقامتها إيران في العراق، مثلما لم يجدوا مكاناً في الماضي عندما حكم البعث العراق بروح تغلب عليها الشوفينية أكثر من أيّ شيء آخر. فضلاً عن ذلك، ليس ما يشير إلى أنّ في الإمكان خروج العراق من النفق المظلم الذي دخل فيه، وذلك على الرغم من وجود بعض المقاومة للسيطرة الإيرانية. تعبّر عن هذه المقاومة بحياء وخفر أحياناً، وبجرأة في أحيان أخرى، شخصيات مثل رئيس الوزراء حيدر العبادي أو السيّد مقتدى الصدر أو السيّد عمّار الحكيم.
في نهاية المطاف، لم يكن أمام الأكراد من خيار غير الانتقال إلى مرحلة جديدة في الطريق إلى تحقيق حلم الاستقلال. ليس أكيداً أنّ في استطاعتهم إقامة دولة ناجحة، لكنّ خيارهم الوحيد كان السعي والمحاولة في ضوء الترددات المستمرّة للزلزال العراقي الذي تسببت به إدارة جورج بوش الابن. هناك فرصة لم يكن مسموحاً للأكراد تفويتها. لا يتعلّق الأمر بأن ليس في استطاعتهم العيش في ظل الدولة الدينية التي أقامتها إيران في العراق فحسب، بل هناك أيضاً غياب لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، حزب جلال طالباني. شكل حزب طالباني، المُقعد حالياً، عامل توازن داخلياً مع الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمّه بارزاني.
لا يفرض الأكراد واقعاً جديداً في العراق فحسب، بل إنهّم يعيدون رسم خريطة المنطقة كلّها أيضاً. ما فعلوه هو البداية الحقيقية لإعادة رسم خريطة المنطقة بالمبضع. لن يكون قيام دولتهم المستقلة أمراً سهلاً، لكن الأكيد أن الحجج التي ساقها رئيس الوزراء العراقي لتبرير رفضه الانفصال لا قيمة قانونية لها، إضافة الى انّها غير واقعية، خصوصاً عندما يتحدّث عن «الفساد» في كردستان. الفساد في كردستان نقطة في بحر الفساد العراقي منذ العام 2003.
تكمن المشكلة أساساً في أنّ العبادي، بكلّ ما لديه من نيّات حسنة، وقبله نوري المالكي، لم يتمكنا من تقديم أي نموذج لدولة «فيدرالية» كان يمكن أن يغري الأكراد، وغير الأكراد، وذلك على الرغم من أنّه لا يمكن في أيّ شكل الاستخفاف بالمشاكل الداخلية والتعقيدات التي يعاني منها الإقليم الذي يحكمه هؤلاء في شمال العراق..
إذا كان هناك فشل لتجربة إقليم كردستان، فهذا الفشل، يبقى محدوداً، ولا يُقارن مع الفشل الكبير الذي اسمه عراق ما بعد 2003.