Site icon IMLebanon

الأكراد في انتظار تغيّر الرياح الإقليمية

منذ حصول معركة كركوك التي كانت ردّاً إيرانياً على الاستفتاء الكردي، تصرّف مسعود البارزاني بحكمة وتواضع. اكتشف كم كانت حساباته خاطئة وكم أن القوى الإقليمية التي تُعارض الاستقلال الكردي، على رأسها تركيا وإيران، قادرة على ممارسة مزيد من الضغوط على إقليم كردستان من أجل خنقه.

انسحب البارزاني من الساحة السياسية مكتفياً بدور «المقاتل» في صفوف البيشمركة، بإعلانه أنه لا يزال في صفوف المقاتلين الأكراد. امتلك شجاعة الاعتراف بالهزيمة والخروج من المشهد السياسي وتسليم الصلاحيات التي كان يتمتع بها كرئيس لإقليم كردستان. توزعت هذه الصلاحيات على هيئات ومؤسسات عدة وذلك كي لا تبقى السلطة محصورة في شخص واحد.

الأهمّ من ذلك كلّه أن الأكراد وافقوا على «تجميد» نتائج الاستفتاء ودعوا إلى حوار مع الحكومة المركزية في بغداد. يبدو واضحاً أن الإدارة الأميركية فاجأت الأكراد. لم تؤيّد الاستقلال ولا الاستفتاء. قررت الوقوف مع حكومة بغداد ومع رئيسها حيدر العبادي الذي يحتاج إلى انتصار داخلي لتعزيز وضعه أمام الذين يسعون إلى التخلص منه أمثال نوري المالكي.

هناك أسئلة كثيرة محيّرة من بينها كيف يمكن لسياسي يمتلك خبرة مسعود البارزاني الإقدام على مغامرة الاستفتاء في وقت لم يكن يمتلك الدعم

الأميركي؟ كيف يمكن للبارزاني أن يصرّ على أنّه «غير نادم» على ما أقدم عليه؟

ثمّة تفسير واحد لموقفه. إنّه ربّما يمتلك معطيات لا يمتلكها أحد غيره. وحده الوقت كفيل بكشف الأسباب التي دفعت الزعيم الكردي الى التمسّك بموعد الاستفتاء في الخامس والعشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي وتحمّل النتائج المترتبة على تمسّك الأكثرية الساحقة من أكراد العراق بالاستقلال.

هناك قراءة كردية واقعية للوضع. جعلت هذه القراءة الأكراد يستسلمون جزئياً لمطالب عدة كانت مرفوضة سابقاً أحدها متعلّق بالمعابر الحدودية للإقليم. كذلك وافق الأكراد على التفاوض في شأن المناطق المُتنازع عليها، في مقدّمها كركوك، وتسليم المنشآت النفطية وعائداتها إلى الحكومة المركزية.

لم يبقَ سوى إلغاء نتائج الاستفتاء وتوقيع صك استسلام لمطالب الحكومة العراقية والعودة إلى نظام المحافظات العراقية. ليس إقليم كردستان غير مجموعة محافظات عراقية لا أكثر. هذا ليس مخالفاً لما ورد في الدستور العراقي فحسب، بل إنّه يخالف أيضاً كلّ ما اتفق عليه في شأنه في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدّام حسين وحتّى ما قبل ذلك حين جرت مقايضة بين الأحزاب الشيعية الموالية لإيران من جهة والأكراد من جهة أخرى.

كانت تلك مقايضة بين قبول الأكراد بوجود «أكثرية شيعية» في العراق، وهو مطلب إيراني، وبين قبول الأكراد ممثلين بمسعود البارزاني وجلال الطالباني بـ«الفيديرالية». هذا ما ورد في البيان الذي صدر عن المؤتمر الذي عقدته المعارضة العراقية في لندن في كانون الأوّل (ديسمبر) 2002 بإشراف أميركي – إيراني تمهيداً لاجتياح العراق.

يدفع الأكراد حالياً ثمن الاجتياح العسكري الأميركي للعراق، الذي انتهى بانتصار إيراني توّج بقيام «الحشد الشعبي» الذي صار العمود الفقري للنظام العراقي الجديد الذي تعتبره طهران امتداداً لنظامها.

استفاق الأكراد متأخرين على واقع جديد بات عليهم التعاطي معه. لم تعد التسوية التي توصلوا إليها في الماضي مع الأحزاب الشيعية العراقية الموالية لإيران قائمة بأيّ شكل. يتمثّل هذا الواقع في أنّ العراق الجديد نسخة طبق الأصل عن النظام الإيراني مع فارق واحد هو أنّ «المرشد الأعلى» الذي يشرف على إيران والعراق موجود في طهران وليس في أيّ مكان آخر. يوجد على الأرض الإيرانية «الحرس الثوري» الذي صار في أساس النظام الإيراني. يوجد في العراق «الحشد الشعبي» الذي هو كناية عن ميليشيات مذهبية تابعة لإيران تتحرك بأوامر من قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري». كلّ ما في الأمر أنّ أكراد العراق يجب أن يكونوا مثل أكراد إيران، علماً أن هؤلاء تظاهروا مؤيدين للاستفتاء الكردي في العراق.

في ظلّ هذا الواقع العراقي الجديد، لم يجد الأكراد سوى المرونة وتقديم التنازلات تفادياً لأيّ صدام عسكري يمكن أن يكلّفهم غالياً، خصوصاً بعدما كشفت معركة كركوك عمق الانقسامات في ما بينهم. لم يردم هذه الانقسامات غياب جلال الطالباني. على العكس من ذلك، ظهر أن الذين يتحكمون بالسليمانية هذه الأيّام لديهم عداء كبير لما يمثله مسعود بارزاني وأنهّم لا يمتلكون تلك الحكمة التي كانت لدى «مام جلال».

من الواضح أن خيار المرونة وتقديم التنازلات هو الخيار الواقعي الوحيد أمام الأكراد. المشكلة أن شهية الحكومة المركزية في بغداد لا حدود لها، كما ليس ما يشير إلى أنّه يمكن أن تتوقف عند مطالب معيّنة تمليها في الواقع طهران. ذلك هو الوضع الجديد الذي ستواجهه أربيل في المستقبل القريب على خلفية المواجهة الأميركية – الإيرانية، التي تبدو كردستان العراق إحدى ساحاتها من منطلق أنّها أرض فيها استثمارات إسرائيلية.

يبدو واضحاً أنّ حكومة حيدر العبادي تريد، بناء على رغبة إيرانية، وضع أربيل تحت إشرافها المباشر وأن تخلع كلّ أنياب إقليم كردستان. كان آخر دليل على ذلك أرقام الموازنة العراقية التي تعكس رغبة في العودة إلى نظام المحافظات. تبيّن أن الإدارة الاميركية لا تستطيع، في الوقت الراهن، أكثر من التوسّط للحؤول دون اجتياح عسكري لأربيل. هل تنجح في ذلك أم لا؟ هذا هو السؤال الكبير. المرجّح أن تنجح في ذلك. سيوفّر نجاحها الوقت الكافي كي تلتقط القيادة الكردية في أربيل أنفاسها وتعيد حساباتها. ما يمكن أن يخدمها أن التطورات الإقليمية يمكن أن تصبّ في مصلحتها، خصوصاً أن الاتجاه العام هو «قصقصة» أجنحة إيران. مثل هذه القصقصة ستجعل حكومة بغداد تتصرف بشكل طبيعي بدءاً من العودة إلى مواد الدستور العراقي… أما الاستفتاء، فيظل تسجيلاً لموقف تاريخي أراد الأكراد من خلاله القول إنّ لديهم الحق في دولة مستقلة تبصر النور في يوم من الأيّام. مثل هذه الدولة تستطيع أن تنتظر. تستطيع أن تنتظر تغييراً في الرياح الإقليمية، قد يحدث قريباً، يجعل الولايات المتحدة أكثر استيعاباً لخطورة ما يمثّله «الحشد الشعبي» الذي تحوّل إلى الحاكم بأمر إيران في العراق.