IMLebanon

الحزب اللبناني الأكبر و«النصر الأعظم»

… وفي الموعد المحدد للجلسة الثالثة والعشرين لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية (13 أيار- مايو 2015) لم يكتمل النصاب القانوني لمجلس النواب، فطلع صوت رئيس المجلس نبيه بري عالياً: «إنهم يعطلون المؤسسات الدستورية ويعتبرون أنه من غير الجائز أن تعمل في شكل طبيعي ما دام رئيس الجمهورية غائباً… فليتفق الموارنة على رئيس ونحن سنكون معه». ثم أضاف: «وفي الوقت ذاته، هم أنفسهم، لا يذهبون الى جلسة الانتخاب، وقد نزلت كتلتي النيابية 23 مرة حتى الآن، بينما هم (كتلة الجنرال ميشال عون) نزلوا مرة واحدة». وإذ أكد «أن للمجلس النيابي كرامة، ولا يجوز تكرار دعوته في شكل متلاحق من دون أن يلتئم»، ردّ بري بطريقة غير مباشرة على كلام لوزير الخارجية من نوع «لا لحكومة، ولا لمجلس نواب، ولا وطن من دوننا».

هذا نموذج يوم سياسي نيابي في دوّامة أزمة رئاسة الجمهورية اللبنانية التي ختمت سنتها الأولى في الفراغ يوم 23 أيار، وليس في الأفق المحلي، ولا في أي أفق آخر، عربي أو دولي، ما يطمئن اللبنانيين، وإن على سبيل المواساة، بأن ثمة حلاًّ في المدى المنظور.

وفي حين تدخل في حسابات 128 نائباً ووزيراً لبنانياً ملايين الدولارات كـ «تعويضات» مقابل وكالتهم عن الشعب اللبناني الرازح تحت أعباء الفقر والبطالة والغلاء، والقلق على مصير العائلة والوطن، تضجّ وسائل الإعلام اللبنانية والعربية والدولية بدور «حزب الله» اللبناني في حرب الحدود الشرقية للبنان، وعبر براكين سورية، ومتاهات العراق، حتى أطلال اليمن البائس الحزين المظلوم.

كل ما سبق ليس سوى خلاصة يومية تتكرّر في غياب رأي عام لبناني أولاً، وإن حضر يصدمه «رأي عام آخر» يشهر في وجهه السلاح، والرايات الخضر، والصفر، والحمر، والسود، ويتعالى دويّ التهديدات والإنذارات، ثم يعود «لبنان» في المساء ليرى وجهه على شاشة التلفزيون، ويسمع صوته، فإذا هو أكثر من وجه، وأكثر من صوت، وأكثر من «لبنان».

إلى أين لبنان من هنا؟ لا أحد يعرف، حتى الذين يملكون الحروف والخطوط والألوان لخريطة لبنان الذي في مشروعهم، أو في خيالهم، لا يعرفون.

يُقال، وأحياناً يُنشر، أن مراكز أبحاث ودراسات استراتيجية تعكف حالياً، في أكثر من غرفة سوداء، في الداخل، وفي المحيط القريب والبعيد، على تشخيص حالة لبنان الوطن – الكيان – الدولة – النظام – الشعب. وببساطة يجري تعميم «وجهات نظر» خلاصتها أن «الوطن الصغير المريض» يتجه نحو مصير من ثلاثة: الفيديرالية، أو التقسيم، أو الفوضى… ومعناها: الحرب الأهلية.

والأفظع من ذلك إحالة لبنان على مسار المنطقة وربط مستقبله بمستقبل كل من سورية والعراق، وما من سبب لاتباعه بمسيرة ومصير لنظامين من طينة واحدة، وقد أوديا ببلادهما وشعبهما الى الهلاك في أتون النار والدمار. ثم يعلو صوت من يقول: هذا هو قدر لبنان في الجغرافيا والتاريخ: أن يكون على فالق زلزال إقليمي ودولي دائم، بين جار شقيق مغامر مجازف متهوّر، وآخر عدو عنصري طامع بالتوسع وغدار. ومن سوء حظ لبنان، الوطن والشعب، أن تغدو هذه النظرية سنداً وحجة لمن يستقوي بها، وذريعة لمن يجعلها مظلّة تحميه في الداخل والخارج، وكأن لبنان بات محسوباً من الماضي، وهو الوطن الذي كان نموذجاً في مخيلات المنظّرين للدول العربية المتعبة، الى حدّ الهلاك، من أنظمتها العسكرية المستبدة.

وإذ يبحث اللبناني اليوم عن الدليل الذي كان المنظرون يبنون عليه فلن يجد دليلاً سوى أن لبنان لم يسقط في قبضة انقلاب عسكري، لا على الطريقة العربية التقليدية التي تبدأ ببلاغ رقم واحد عبر الإذاعة والتلفزيون، ولا على طريقة دول هالكة في القارتين الآسيوية، والإفريقية، حيث الإنقلاب ضربة حظ، إذا فشلت تُعاد مرة ثانية، أو أكثر.

مع ذلك تبقى «الديموقراطية» اللبنانية نموذجاً لا مثيل له في العالم العربي، حتى ليصح القول إن كل لبناني يعيش شخصيتين في جمهوريتين: شخصيته المذهبية وشخصيته الوطنية، وليس بالضرورة أن يكون شعوره المذهبي خياراً مقنعاً ما دام الشعور الوطني واجباً معلناً وملزماً.

حزب بلا اسم

وحتى الآن لا تزال الأحزاب اللبنانية التقليدية قائمة: أحزاب قومية «عربية» و«سورية» عناوينها لبنانية، ومضمونها وعديدها من طوائف ومذاهب مسيحية خالصة، وأحزاب لبنانية أخرى مضمونها وعديدها من طوائف ومذاهب مختلطة، وعناوينها يسارية، وطنية وأممية. ويبقى الحزب الأكبر، والأشمل، والأعم، وهو حزب اللبنانيين غير الحزبيين، ومضمونه وعديده من كل الطوائف والمذاهب، ومن كل الطبقات والفئات، ومن كل المراتب العائلية، والاقتصادية، والمالية، والثقافية والاجتماعية.

ذلك الحزب اللبناني بلا اسم، ولا عنوان، ولا انتماء، إلا للعائلة، والبيت، والعمل، والرزق، مع التزام القوانين، واحترام الدولة، بما هي تعني الضمانة والحماية، والرجاء بأن تكون الحال الراهنة والمستمرة منذ العام 1970، على الأقل، مجرد غيمة ثقيلة، وإن تكن لا تزال تمطر غضباً، ودماً، وبؤساً، وحزناً، وفرقة، وهجرة، وتشرّداً، وتقهقراً، وجهلاً، وتخلفاً.

ومع كل ذلك يبقى الأمل بأن تكون هذه الغيمة «عابرة» رغم مضي خمسة وأربعين عاماً على تمركزها فوق لبنان. إنه الأمل، والصبر، عنصران وسببان يشكّلان العصب الذي لا يزال اللبناني يمتلكه، ثرياً كان، أو فقيراً. قوياً أو ضعيفاً.

ذلك الحزب اللبناني الأكبر الذي، بلا اسم، ولا عنوان، هو الذي لا يزال يحفظ للبنان معناه. بل هو الذي لا يزال سند بقائه واستمراره وطناً، بما يعني الوطن، والدولة بما تعني الدولة. إنه الحزب الذي لا يزال يشكل إطاراً لمفهوم النظام الذي لا معنى له من دون حرية، وقانون، وعدل، واستقرار، وطموح. ولعلّ ذلك الحزب اللبناني الأكبر هو الذي لا يزال يوفر الغطاء لمن يشعل النار في قميصه.

لا تأشيرة خروج

لكن، إلى متى يمكن أن يبقى ذلك الحزب الذي بلا اسم ولا عنوان ضمانة وحماية لمن يشعل النار في قميصه؟ إنه خائف اليوم. وهو إذ يتلفت حوله، شرقاً، وشمالاً، وجنوباً، يشعر بالقلق. فكل هذه الجهات ملتهبة، أو مفخخة، أو قابلة للانفجار. إنه الحزب الذي لا يملك تأشيرة خروج، وهو لا يطلبها ولا يريدها. لكنه بات يخشى أن يفقد الأرض التي يقف عليها. يرعبه التصور أن وطنه قد يذهب غنيمة للذين لا وطن لهم، وكم صار عددهم كثيراً، وكم بات خطرهم كبيراً في المحيط، وبعيداً خلف الحدود، براً وبحراً، وجواً.

بين غفوة وصحوة يتساءل الحزب اللبناني الأكبر: من سيحميه من غدر مباغت في معمعة الحروب التي تدور حوله، وممن ينتظر العون إذا ما دهمته فوضى الجوار؟ إنه القلق الذي يحفز الشعوب على التساؤل حين يحاصرها الخطر، وإن من بُعد.

حتى أقوى الدول وأعظمها دفاعاً، واقتصاداً، وتنظيماً، واستعداداً، تظلّ شعوبها تحت هاجس الحماية، فكيف لشعب بحجم الشعب اللبناني أن يطمئن في الوطن المهدد على الدوام من داخل، ومن خارج.

مع ذلك تبقى ثمة نقطة قوة في سيرة الكيان اللبناني، ومعها نقطة ضعف. وحالياً تجري حسابات لتغليب نقطة القوة على نقطة الضعف.

وسواء كان تاريخ الكيان اللبناني مؤلفاً بأقلام كتبة لبنانيين وعرب وأجانب، ولكل منهم نسخته الأصلية المعدلة، أو المزورة، أو كان هذا التاريخ حقيقة ثابتة علـــى صخر وعلــى برهان مستمد ومستمر عبــــر العصور، فإن هذا الكيان القائم حالياً بمساحته، وضمن حدوده، وبقطع النظر عن نظـــامه وعن حكامه عبر الأزمنة، والأجيال، قـد أثبــــت حقه بالوجود والبقاء، كما استحق دوره وضــرورة استمراره بما أعطى من علم وثقافة ومبادئ حرية وديموقراطية، فضلاً عن حضور دائم في البلاد العربية، وفي أقطار العالم. يكفيه ما له من فروع وأصول في عالم الاغتراب على مدى القارة الأميركية بجناحيها الشمالي والجنوبي.

كل ذلك الرصيد هو لشعب لبنان، لا لحكامه الذين، بمعظمهم، كانوا «نواطير» على أبواب الوطن، وكانوا المؤتمنين على ميثاقَيه الأول والثاني، وقد أخلّوا بالأمانة، ومضى بعضهم إلى حدّ الخيانة بجعل لبنان الوطن والدولة رهينة لحسابهم في الوظيفة العامة والخاصة، وقد ضيعوا كل الفرص وآخرها فرصة «14 آذار» التي وحّدت اللبنانيين في ساحة الشهداء، حيث كان لكل منهم شهيده. هذا قبل أن يسقط الوطن بكامله شهيداً. وحده الجيش كان الضمانة، ولما يزال.

لكن كل ذلك لا يحجب فرصة مجيدة مرت عام 2000، ومضت. كانت تلك فرصة النصر العظيم الذي أسس مداميكه الأولى شهداء من مناضلين لبنانيين مكتومين قبل أن يكمل «حزب الله» الإنجاز الكبير بتحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الإسرائيلي وطرد العدو بعيداً بعيداً، خلف الحدود… يومها (25 أيار- مايو 2000) تحقق النصر الأعظم.

تلك الفرصة ضيّعها الحزب المنتصر نفسه، وبعدها عاد لبنان ليعيش القلق الداخلي، وظلّ ينتقل بين مرحلة وأخرى، وصولاً الى مرحلة عام 2006 التي كانت قاضية على انتفاضة «عامية لبنان» عام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري، ومن سبقه، ثم من تبعه من قوافل الشهداء، قافلة بعد قافلة، ولا يزال الحبل على الجرار، وقد كان أوله في 16 آذار (مارس) 1977 حين قضى كمال جنبلاط ورفاقه برصاص النظام السوري.

فرصة نادرة

هي فرصة نادرة في تاريخ لبنان الحديث وقد مضت عام 2000، ثم ضاعت مرة أخرى عام 2005 يوم سلّم «حزب الله» بندقية المقاومة الى رستم غزالي. فهل يمكن لـ «حزب الله» أن يستردّ تلك البندقية؟ لكم كان المغزى عظيماً لو سلّم «حزب الله» بندقية المقاومة الى قائد الجيش اللبناني.

وهل لمفكر لبناني، وغير لبناني، أن يتخيل كيف يمكن أن تكون صورة لبنان اليوم لو أن «حزب الله» سلّم الجيش اللبناني في 25 أيار 2000 علم النصر اللبناني على العدو الإسرائيلي مع علم المقاومة وسلاحها؟

هل للمتخيل أن يجمع صورة بيروت رافلة في زي «العاصمة العربية المنتصرة»، وقد فتحت أبوابها وأسواقها أمام الملايين من العرب والأجانب، لتقدم إليهم مدينة عصرية، عروساً طالعة من الرماد بأبهى حلّة، وأناقة، وجمال يشع من آثار حضاراتها القديمة، ومن عماراتها المؤالفة بين القديم العريق والجديد الفاخر الذي يليق بأذواق الأجيال الصاعدة على سلم المستقبل المفتوح على التجدد والابتكار، والإبداع، بحرية وبأمان واستقرار؟

فأين بيروت اليوم من ذلك الحلم الذي كان على شفا الحقيقة؟

لنقل إنه توقف. إنه الأمل المستمر ببقاء وطن. بدولة جديدة، بنظام ديموقراطي يجمع بين الحرية والمساواة بالقانون والعدل والفرص. بجيش لا شريك له إلا الشعب اللبناني.