IMLebanon

رحل أكبر مشرّح للعنف في تاريخ التجربة اللبنانية

لسمير فرنجية مقام استثنائي في هذا التراكم، الحضاري والصعب، المنتج للتجربة الكيانية اللبنانية، لتجربة المعاش اللبناني. رحل بعد سبع سنوات من الإصرار على الحياة ومطاردة الأورام السرطانية. رحل بعد عقود طويلة من التفكير غير المنقطع، من الحيوية النقدية والملتزمة في آن، من الوصل بين تركة الإستقلال اللبناني الأول والميثاق اللبناني الأول وبين التأسيس للإستقلال الثاني ولتقويم العقد الإجتماعي بين اللبنانيين، هذا العقد الذي شدّد فرنجية على أنه لا ينبني بين جماعات مغلقة، بل إن ضرورته تنبع من الأساس من إستحالة هذا الإنغلاق نفسه، إستحالة أن تعيش أي جماعة كيانيتها لوحدها، بعد أن جمعها كلّها، هذا «النمط اللبناني في الوجود» كما كان يسميه.

وسمير فرنجية هو مثقف سياسي قبل أي شيء آخر. كثيراً، ما يجري تضييع هذا الفرق بين المثقف السياسي من جهة وبين رجل السياسة من جهة، والمثقف المداخل في السياسة، إنما من موقع نشاط أدبي أو فني بالأساس، من ناحية أخرى. سمير فرنجية هو من القلائل الذين استطاعوا تجسيد فكرة المثقف السياسي في لبنان. ولأجل ذلك، ومع وفاته المحزنة، ربما يكون الوقت قد حان لإستجماع نتاجه خصوصاً منذ الوقت الذي عمل فيه على النضال من أجل السلم الأهلي في أيام الحرب الأهلية إلى الوقت الذي عمل فيه من أجل المصالحة الوطنية واستعادة سيادة لبنان في أيام الوصاية السورية الى الوقت الذي لعب فيه الدور الطليعي في ثورة الأرز بكل الجردة، المتشائمة حيال الأطر التي تآكلت أو تحتاج لإعادة صيانة عسيرة، والمتفائلة حيال النبض المواطني والشعبي الذي لم يزل يعبّر عن منطلقات النضال من أجل الدولة الحرّة والتعددية السليمة والعدالة.

وسمير فرنجية علاوة على كل عناوين نضاله السياسي المعروفة، هو مفكر بامتياز لتجربة لبنان المريرة مع العنف، خصوصاً في كتابه «رحلة إلى أقاصي العنف». حيث نبّه إلى أن التعددية بحد ذاتها لا تنتج عنفاً، والصراع على السلطة بحد ذاته لا ينتج عنفاً، إنما العنف ينتجه انمحاء آليات التحكم التقليدي بالعنف، الذي كان معمولاً به يوم كانت الجماعات معزولة نسبياً عن بعضها البعض، والإخفاق في استكمال تحقيق الدولة التي لا يمكن أن تحقق إستقلاليتها الخارجية إلا بحد أدنى من إستقلاليتها عن الكباش اللامنتهي بين الهويات الفئوية المغلقة.

هو واحد من هؤلاء الموارنة – الأفراد، الأحرار، الذين لا يتكررون. ومواطن لبناني بإمتياز، يفكّر تجربة بلده وتجربة المشرق العربي في وقت واحد، وفي الحالتين هو شرط إمكان السلام الأهلي وصيانته، مجسداً في شخص.

لسمير فرنجية كل الحب، لأنّه علّمنا من بين أشياء عديدة، الحب والإصرار والعزيمة، والحفاظ على التفاؤل، بعد استعراض كل الأسباب الموجبة للتشاؤم!