ها أنت تقف مجدداً عند المنعطف. ولا خيار أمامك غير أن تطوي الصفحة. الوقت سياف لا يستأذن أحداً. لم يبقَ في مسدسك غير رصاصة أخيرة، ولا مناص من إطلاقها. اليوم الأخير من السنة. سحب الزمن سنة كاملة من رصيدك في مصرف العمر.
العادات حاكم بقرارات مبرمة. كلما همَّت سنة بلفظ أنفاسها الأخيرة، أذهب إلى المكتبة في المدينة التي أكون فيها. تعلمتُ أن على الصحافي أن يمثل أمام كنوز المكتبة. درس لا بد منه للاحتفاظ بالتواضع ومحاربة أوهام المهنة. تبلغك المكتبة أن ما تعرفه قليل، وأن عليك أن تبحر أبعد وأكثر. وأن مساهمتك لن تكون – في أفضل الأحوال – أكثر من نقطة عابرة في محيط هادر. وأن الأخبار تتلاشى بعد ساعات فقط من ظهورها. وأن المقالات تموت بدورها قبل غروب الشمس.
تتحداك المكتبة. على رفوفها عقود وأساور وخواتم. وعلى رفوفها حديد مستهلك، وخزف متآكل، ورماد عابر، وكلام مرشح لموت سريع. لكنها تذكرك – بالتأكيد – برجال قامروا بأعمارهم، معتقدين أو واهمين أن تجاربهم ستحصن أعناق أسمائهم في مواجهة سيف الوقت. وما أجملها من أوهام. تعطي العمر نكهة المحاولة ولسعة التحدي.
درس في التواضع. على الرفوف أسماء عبرت القرون والحقب، كصاروخ عابر للقارات. عاشت طويلاً حتى أدركت زمن «تويتر» والجمل القصيرة اللماحة التي ترشق كالسهام. تذهلني قدرة قصيدة على اختراق جسد الوقت كالرمح. هذا المتنبي الذي يقيم في المكتبة كأنه صاحب الدار، ويسخر من تبدل أسماء جيرانه. تذهلني قدرة رواية كتبت في القرن التاسع عشر على إرغامك على مقاومة النعاس، من فرط شراهتك إلى استنفاد الوليمة. تذهلني قدرة كاتب روسي أو فرنسي، أو من أي جهة أخرى، على مخاطبة شاب سيقلب الصفحات بعد قرنين. وتثيرني أيضاً قصص أولئك الرجال الذين منحتهم الأقدار والإرادات عيوناً نفاذة، فأطلقوا مشاعل النهضة غير آبهين بسطوة عساكر الظلام.
أشعر بامتنان كبير لهؤلاء الذين لا يبخلون بأعمارهم على التنقيب في تجارب رجال هزوا العالم، قبل أن تحذفهم محكمة الأعمار. سنوات من البحث والتنقيب لإعادة محاكمة ستالين وديغول وماو وصدام والقذافي وكيم، سواء لتأكيد الحكم أو نقضه. لا بد من إعادة المحاكمات لمحطات التاريخ والرجال والوقائع والكتب. لا بد من رمي كل شيء في نهر النقد، لغسل الحجارة مما لحق بها من الصدأ والتكلس.
سألتُ البائعة الشابة عن الكتب الجديدة، فما أجمل أن تعثر على قنديل جديد. أشارت بيدها؛ لكنها قالت: «الشبان الجدد لا يقرأون». وهذا غير صحيح. إنهم أبناء زمن مختلف. يقرأون بطريقة أخرى. على الهاتف والجهاز ومواقع التواصل. ربما لهذا السبب تبدو زيارة المكتبة وداعية أحياناً. لن تكون بعد سنوات كما هي الآن. قدرها أن تلحق بالقراء الجدد وثقافتهم وأساليبهم. وهو نفسه قدر الكُتاب الجدد.
خرجتُ من المكتبة، فوجدتُ المدينة في قبضة الليل. طلبتُ من السائق أن يأخذني في جولة. أحياناً تشعر برغبة في الدوران في مدينتك الأصلية، فتجول كمجرم يتفقد مسرح ارتكاباته الأولى. مررتُ في شارع الحمراء، فوجدت مبنى صحيفة «السفير» مطفأ. حزنت. كانت تجربة مهنية جديدة وجريئة. كدت أشم رائحة دموع ناشرها ورئيس تحريرها الصديق طلال سلمان. لا شيء أوجع من أن تخسر صوتك وشرفتك. ومررت قرب مبنى «دار الحياة» حيث تركتُ بعضاً من عمري. وجدتُ المبنى معتماً. تستحق هذه التجربة اللافتة مصيراً أفضل. مررت قرب مبنى «النهار» وأفرحني أنه لا يزال مضيئاً يغالب بشجاعة، بقيادة رئيسة التحرير نايلة تويني، التحولات الكبرى والمؤلمة التي أصابت هذه الصناعة، بفعل الثورة التكنولوجية المتواصلة وثورة الاتصالات.
تذكرت «النهار». ذهبت إليها من مقاعد الجامعة. كانت معهداً صارماً. الخبر شيء والرأي شيء آخر. لا يحق لك أن تخطئ، وإن فعلتَ فواجبك ألا تكرر. دقة المفردات والأمانة في الصياغات. الإيجاز في العناوين، والسماح باستخدام المخيلة من دون تضليل القارئ. وحتى في المقالات، لا يحق لك استغلال مساحة بيضاء أعطيتها لتصفية الحسابات والتشهير. واجبك الدائم احترام عقل القارئ وصورة الصحيفة والقانون. كان التردد على الصحيفة أشبه بزيارة يومية للمكتبة. كان غسان تويني بارعاً في شم رائحة اللاعبين الواعدين. والرجل اللامع لا يخشى النجوم الصاعدين؛ بل يحرضهم ويتعهدهم. وكان الصحافي الشاب يشعر كم عليه أن يتعلم في حضرة المحترفين، وفي جوار المعلقين والكتاب والشعراء.
وفي طريق العودة، وجدت مبنى «دار الصياد» مطفأ. عقود من الصحافة في المؤسسة التي أطلقها سعيد فريحة، وأتقن فيها برحابته استقطاب مميزين انتقلوا لاحقاً ليثروا الصحافة العربية، بالرسائل والتحقيقات والحوارات والمقالات. غابت «الأنوار» الصحيفة اليومية، وكدت أشمّ رائحة دموع رئيس تحريرها الصديق رفيق خوري. لا شيء أقسى من أن تخسر شرفتك.
مشكلة الصحف في لبنان جزء من مشكلة عامة في كل البلدان. لا الحزن يفيد ولا الرثاء يجدي. ولا خيار أمام الثورات الهائلة المتدافعة غير الانخراط فيها. لا تموت الصحف. تتغير وتعود في أشكال جديدة وحديثة. لا يحق لأحد أن يقفل بابه في وجه التغيير؛ لأنه يختار الاندثار. والتغيير صعب، ويحتاج إلى الإرادة والإمكانات والمخيلة وذهنيات جديدة.
هذه تشوهات المهنة. كل يودّع السنة متفقداً أحوال قبيلته. الأكيد أن الوقت يفلت من بين الأصابع. إنه اليوم الأخير. ولا خيار غير أن تطلق الرصاصة الأخيرة اليوم، لتستعد لتحديات السنة الجديدة، وهي ليست بسيطة على الإطلاق في السياسة والأمن والاقتصاد والهجرة والمناخ.