إذا كان الخلاف على انتخاب رئيس للجمهورية فرض شغوراً رئاسيّاً مضى عليه حتى الآن ما يقارب السنتين، كما فرض تشكيل حكومة “وحدة وطنية” لا وحدة بين معظم أعضائها، فهل يؤدّي استمرار الخلاف على إقرار قانون جديد للانتخابات النيابيّة إلى وضع البلاد بين خيارات الفراغ التشريعي أو العودة إلى قانون الستين أو التمديد مرة ثالثة للمجلس؟ فاستمرار الخلاف على تشريع الضرورة يضع البلاد بين خيار تعريضها للانهيار أو القبول بهذا التشريع وإلا فإن الخارج الحريص على بقاء لبنان قد يضطر إلى التدخّل ليفرض اسم رئيس الجمهورية والحكومة وقانون الانتخابات وحتى نظاماً جديداً للبنان كما حصل سابقاً في الدوحة.
هذا الوضع السيئ يطرح سؤالاً: لماذا وصل لبنان إلى ما وصل إليه؟ الجواب واضح ومعروف وهو أن رجال الأمس لم يكونوا مثل رجال اليوم، فمصلحة لبنان عندهم كانت فوق مصلحتهم وفوق مصلحة أي خارج، ولم يكن الخارج يلعب لعبة تعطيل الانتخابات الرئاسيّة كما يفعل اليوم، بل كان يتدخّل لدعم مرشّح ضد مرشّح آخر، ولم يكن المرشّحون للرئاسة مثل مرشّحي اليوم. فمن كان يرى أن منافسه أكثر حظّاً منه ينسحب له أو ينازله في مجلس النواب. فالمرشّح حميد فرنجية انسحب لمنافسه كميل شمعون، والعميد ريمون إده خاض المعركة منافساً للمرشّح اللواء فؤاد شهاب، ليس للانتصار عليه إنما ليجعل الديموقراطيّة تنتصر. وأركان “الحلف الثلاثي” أيّدوا ترشيح سليمان فرنجية عندما تعذّر على أي منهم كسب أصوات المسلمين. إن ما يحصل اليوم في الانتخابات الرئاسيّة لم يحصل مثله في تاريخ لبنان، فما من مرّة قال حزب إنه يريد مرشّحه للرئاسة وإلاّ عطّل جلسة الانتخاب، أو أن مرشّحاً لا ينسحب لمرشّح آخر لأن كلاً منهما يدّعي أنه هو الأقوى ولا يقرّران التنافس في مجلس النواب لمعرفة من هو الأقوى نيابيّاً لأن نواباً قد يعدون بشيء خارج الجلسة ويغيّرون موقفهم في الجلسة. لذلك فإن من يعطّلون جلسات الانتخاب يلعبون لعبة الخارج من حيث يدرون أو لا يدرون، وهذا الخارج ربما ينتظر ما سوف يحصل من متغيّرات وتحوّلات في المنطقة ليقول كلمته في وضع لبنان بحيث ينتخب رئيس إمّا للبنان الحالي أو للبنان آخر يكون له رئيس ملائم، وهذا يعني أن لا رئيس للبنان قبل معرفة أي لبنان!
أما قانون الانتخابات فكانت السلطة الحاكمة تفصّله على قياس الموالين لها كي تأتي بأكثرية نيابيّة مؤيّدة لها أو للسلطة التي ستخلفها باعتبار أن الأحزاب الرئيسيّة هي التي كانت تتصارع على الحكم وكان صندوق الاقتراع هو من يقرّر. أما اليوم فلا سلطة حاكمة تستطيع أن تفرض القانون الذي تريد ولا حزب لوحده يستطيع أن يفعل ذلك، ما يجعل الخلافات تشتدّ حول قانون كل حزب يريده أن يكون على قياسه وليس على قياس لبنان. وإذا كانت اللجان التي تشكّلت لم تتوصّل إلى اتفاق على القانون خلال سنوات، فهل تتوصّل العودة إلى اللجان المشتركة إلى اتفاق، أم أن كثرة المشاريع تحوّلها برج بابل فتقتل درساً؟
الواقع أن كل شيء يدل، مع تعدّد الرؤوس وقلّة الرجال، على أن ثمّة خارجاً له أنصار في الداخل يعملون على أن تكون له الكلمة في لبنان بعد أن يعجز القادة فيه عن الوصول إلى حل فيدخل لبنان مرحلة الخطر، ويتكرّر ما حصل في الدوحة حيث فرض على القادة انتخاب رئيس للجمهوريّة، وتشكيل حكومة محاصصة واعتماد قانون الستين معدّلاً، كما فرض ما هو أخطر ومخالف للدستور وهو ألاّ يكون من حق الحكومة أو أي وزير فيها الاستقالة. لكن سلاح “حزب الله” استطاع التمرّد على اتفاق الدوحة بإشارة من سوريا وإيران… فاستقالت الحكومة بعد استقالة الوزراء المحسوبين على هاتين الدولتين في احتفالية ملتفزة من دارة العماد ميشال عون في الرابية، عقبها تشكيل حكومة غالب ومغلوب وبقي السلاح خارج الدولة يحكم الدولة.
لكن هل يمكن القول إن فرصة إخراج لبنان من وضعه الشاذ قد فاتت، أم أنّها لم تفت إذا كان الإخلاص للبنان أقوى من الإخلاص لأي خارج؟ إذ في استطاعة المرشّحين العماد عون والنائب سليمان فرنجية النزول مع نوابهما إلى المجلس لينتخب واحداً منهما رئيساً للجمهورية، لا أن يظل التنافس بينهما خارج المجلس ويدّعي كل منهما أنه أقوى من الآخر. وإذا لم ينل أيّ منهما أصوات الأكثرية النيابية المطلوبة فإنه يصبح من واجب النواب الملتئمين أن ينتخبوا أي مرشّح غيرهما مُعلن أو غير مُعلن، وهو ما كانوا يفعلونه في تاريخ الانتخابات الرئاسيّة في لبنان، لا كما يفعل بعضهم اليوم بالقول إنه يريد فلاناً رئيساً للجمهوريّة وإلاّ فلا رئيس ولتخرب البلاد…