اعترف بأنني شعرت بغصّة، أمس، في الصالة الكبرى لكنيسة مار الياس – انطلياس وأنا أراقب الوجوه التي جاءت، مثلي، لتشارك ذوي المرحوم الدكتور البر بطرس الخوري العزاء بفقيدهم الغالي… أما الغصة فلم تكن، فقط، لأن الفقيد شقيق نخبة من الرجال والسيدات بينهم الشيخ خليل الخوري الصديق والرفيق المؤسس في جامعة آل خوري في لبنان والعالم، وليس فقط كونه خال الصديق الشيخ بيار الضاهر رئيس مجلس إدارة قناة LBCI، ولا فقط كونه نجل رجل الإقتصاد اللبناني الكبير الراحل الشيخ بطرس الخوري الذي ارتبط به إقتصاد هذا الوطن حقبة طويلة من التاريخ اللبناني (…) إنما أيضاً للوجوه التي غصت بها القاعة، وكان بينها الكثيرون من أيام الزمن الجميل.
كانت وفود المعزّين تمرّ في أرتال، وكنت أستعرض في خاطري شريطاً من تلك المرحلة من خلال هؤلاء الذين تقاطروا ليؤدوا الواجب في ما بدا لي أننا أمام الحقيقة التي آل إليها الواقع اللبناني.
إمتلأت القاعة، طوال النهار، وستمتلىء اليوم، بالوافدين من مختلف الأطياف والمناطق والأعمار ولكن الأكثرية كانت من آخر من تبقى من «أركان» البورجوازية المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً. وكان المشهد كلاسيكياً بامتياز: عبقت القاعة بأريج أفخر العطور الباريسية، وتدثر الرجال بالبزات الرسمية، فيما توافدت السيدات بالأسود الأنيق، وقد كثر بينهم، ذكوراً وإناثاً، المتقدمون في السن، من الذين لايزالون يحملون الود والتقدير، مقرونين بالوفاء والإحترام لذوي الفقيد ولذكرى والدهم الشيخ بطرس الخوري الذي كان لي الحظ ان تعرّفت إليه وكان في بداية حياتي المهنية، حتى من قبل أن أكمل دراستي في الحقوق… وكان اللقاء الأوّل في السراي الكبير ولا أزال أحتفظ بصورة تذكارية عن تلك المناسبة يبدو فيها الشيخ بطرس بطربوشه الارجواني وإلى يمينه المثلث الرحمة «المطران الزعيم» انطوان عبد رئيس أبرشيه طرابلس المارونية وكانا مغادرين بعد لقاء مع صديقهما المشترك المرحوم الرئيس الشهيد رشيد كرامي، والشيخ بطرس كان رفيق دراسة للمرحوم والدي الشيخ يوسف خليل الخوري في «الكلية الوطنية» في داريا – زغرتا.
هذا اللبنان لم يبق منه شيء، وطبعاً لم يبق إلاّ القلّة النادرة من الشخصيات (سيدات وسادة) الذين غصت بهم القاعة الكبرى في كنيسة مار الياس – انطلياس، ومعظمهم يحمل على عاتقه عبء السنين، كما يحملون همّ الوطن والمواطن. الوطن الذي كان، والمواطن الذي بات همّه محصوراً في لقمة العيش ولو… بأي سبيل!
ولقد تبدو المناسبة سانحة للقول إن المرحوم بطرس الخوري ترك وراءه، ما يتجاوز الثروة المادية، على أهميتها، الى الثروة الإنسانية المتمثلة في أفراد عيلته المحترمين الذين لاقوا جحوداً من الكثيرين الذين لوالدهم عليهم أفضال. وكان اضعف الإيمان أن يكون الشيخ سليم نائباً أو وزيراً. إلا أن حسابات الجغرافيا (المنطقة) كانت أكبر من حسابات الكفاءة والإستحقاق.
واستمر شريط الماضي الجميل يدور في خاطري والذاكرة إلى أن مرّ بقربي رجل وسيدة تقدم بهما العمر، وكانا يتحدثان بفرنسية ممتازة (كما معظم الحضور) واستمعت اليها تقول له ما تعريبه: هل تظن أننا لو ذهبنا الى أي مكان خارج محافل التعزية، سنعرف أحداً، أو أن أحداً سيتعرّف إلينا؟
ألم أقل أنني كنت أقرأ في واقع لبنان الحالي!