Site icon IMLebanon

آخر أجيال البورجوازية المسيحية

 

 

عبقت الأجواء بأريج أرقى العطور الباريسية، فيما كانت الموسيقى تصدح بألحان وأغاني الستينات والسبعينات التي يسمونها اليوم «اولديز» التي نشأنا عليها في شبابنا، ولا يزال وقعها «النوستلجي» يعود بنا الى ذلك الزمن الجميل. فيما تقاطر الى داخل ذلك المطعم الرومنسي سيدات يعقدن أذرعهن بأذرع رجالهن، والجميع يرتدون الأزياء ذات «الماركات» الفرنسية والإيطالية العريقة المشهورة.

 

كانت الألسن تنطق بالفرنسية الباريسية، سيّان أكان  الكلام مجرّد تبادل التحيات، أو يتناول الحسرة على الزمن الجميل، والشباب الذي لن يعود يوماً.

 

جميعهم كانوا في أرذل العمر أو على أبوابه. تحلّوا بتهذيب يلتزم «الأتيكيت» في أدق تفاصيلها، أما ربطات الأعناق المنشّاة فكانت تشدّ على العروق، بينما يبادر من ضيّقت عليهم التنفس الى الإستئذان من الحضور قبل أن يحلّ عقدتها.

 

كانت المناسبة عشاء خيرياً أقامته جمعية تحمل إسم أحد  القدّيسين… وهو الإسم المرتبط بعمل الخير وحبّ الآخر ومساعدة المعوزين.

 

تأملت كثيراً في الوجوه، سعيت لأن أقرأ الأمائر التي إرتسمت على كل محيّا. إستمعت الى الأحاديث المتبادلة. تناهت إليّ الهموم والهواجس والإنتقادات التي كانت محور العبارات…

 

… وخلصت الى أن هذا المشهد هو أحد أواخر زمنٍ لبناني ينقرض. وتأكدت أننا في وداع آخر معالم «البورجوازية المسيحية» إذا صحّ التعبير.

وليؤذن لي القول آخر معالم لبنان الذي كان.

 

ولست في معرض التقويم: كيف كان هذا (عفواً: ذاك) اللبنان وكيف صار؟ ولا أين كان الخطأ وأين كان الصواب؟ ولا أيضاً لماذا سقط ذلك اللبنان؟ ولا كذلك لماذا عجزت تلك البورجوازية المسيحية (الوطنية) عن أن تستمر؟ ليس في المظهر الآيل الى الإنقراض وحسب، بل أيضاً في المفهوم الوطني؟ وكيف غابت تلك القيم، (التي لم تكن مرتبطة بالمسيحيين وحدهم إنما بالنسيج الوطني اللبناني بأطيافه قاطبة)؟ ولماذا حلّت بهذا الوطن، الفريد بين الأوطان، النكبات بعد الحروب والكوارث؟ ولماذا آلت المقاليد الى أجيال هجينة لدى الجميع تقريباً، وليس لدى طيف لبناني واحد؟

 

كانت تلك الخواطر والأسئلة والتساؤلات تتزاحم في خاطري بينما كان أنفار من السيدات والرجال يتوجهون الى الخارج لدقائق لتدخين لفافة تبغ «التزاماً بالقانون»! وعندما سألت إحداهن وقد عجزت السنون عن أن تمحو جمالها الأخّاذ بالرغم من الغضون التي إرتسمت على صفحتي الوجه الصبيح: ولماذا الإلتزام بالقانون ومن يطبّقه في أي قاعة مقفلة أخرى في لبنان؟ عندما طرحت هذا السؤال أجابتني بالفرنسية: أنا لا التزم بالقانون نصاً جامداً، أنا التزم باحترام نفسي عندما أطبّق القانون!

 

تمعّنت طويلاً في كلامها، وأنا أشد على يدها باحترام!

 

ألم أقل إنه جيل ينقرض؟!

 

خليل الخوري