السنوات الثماني التي تفصلنا عن آخر استحقاق انتخابي عرفناه في لبنان، هي سنوات انعكست فيها الآية بين لبنان وبين البلدان العربية. هذه السنوات الثماني كانت بشكل عام أكثر ركوداً مما سبقها، ولا تقارن بما شهدته العشرية السابقة عليها من أحداث جسام أو مفصلية أو كارثية أو ملحمية (الإنسحاب الإسرائيلي، الحراك السيادي لإنهاء الوصاية السورية، التمديد لإميل لحود والقرار 1559، اغتيال الرئيس رفيق الحريري وسلسلة الاغتيالات التي تلت، انتفاضة الإستقلال وحدث 14 آذار 2005، تفاهم مار مخايل، حرب تموز، احتلال الوسط التجاري، غزوة 7 أيار..). يبدو الوضع أقرب إلى مفردات الركود والسُبات في السنوات الثماني الماضية مقارنة بهذه العشرية السابقة عليها: من فراغ حكومي إلى فراغ رئاسي، ومن تمديد أول إلى تمديد ثانٍ فثالث للمجلس النيابي.
الصورة العربية مقلوبة رأساً على عقب. في عشرية المخاض الحيوي اللبنانية بحلوها القليل ومرّها الكثير، كان الوضع العربيّ هو الأقرب لمفردات الركود والسُبات. وحتى ما يظهر على أنّه النقيض للركود والسُبات من أحداث، كمثل القمع الإسرائيلي لـ «الإنتفاضة الثانية» (2002) والإحتلال الأميركي للعراق، فإنهم من نوع الإستثناء الذي يؤكّد القاعدة، فحركة التضامن العالمية مع الفلسطينيين عام 2002، وحركة مناهضة الحرب على العراق عام 2003، كان مجالها في حواضر الغرب أكثر مما كان في بلاد العرب. في المقابل، حين دخل اللبنانيون في «سبات ما بعد انتخابات 2009» حدثت «الصحوة» الجماهيرية في البلدان العربية، وحين «تفركش» اللبنانيون بخيالهم ولم يعد بإمكانهم تنظيم الإنتخابات بسبب استفحال معضلة قانون الإنتخاب، كانت الإنتخابات التنافسية تنظم في البلدان الأخرى. غير أن مدّة السُبات اللبناني كانت طويلة وكافية، بحيث هامت الطفرة الانتخابية العربية على وجهها، فانحسرت حركة الإنتقال في الإتجاه الدستوريّ التعددي، وتصدّعت البنى الإجتماعية أكثر من ذي قبل، وصعدت الرثاثة على حساب ألوان الربيع، وجرت شلالات الدم في مجموعة من البلدان العربية في وقت واحد، حتى بتنا أقرب إلى مشهد حرب أهلية عربية ممتدة من العراق حتى ليبيا، ومن اليمن حتى سوريا.
صحيح أنّ لبنان «تفاعل» مع هذا التحوّل العربي حوله، إن بحركة اللجوء السوري نحوه، أو بحركة النزيف اللبناني على الأرض السورية بسبب تدخل «حزب الله» في الحرب إلى جانب قوات النظام البعثي، لكن «الديموقراطية الطائفية» اللبنانية التي سارع البعض للاستخفاف بها فور انطلاقة أحداث الربيع العربي عام 2011، ظهرت أكثر تماسكاً من ذلك، ولم يظهر أنّ ثمّة بدائل عربية جديدة يمكن أن تغري اللبنانيين بالتخلي عن نموذجهم في الديموقراطية على هجانته وهشاشته وسرعة عطبه. الا أنّ هذا النموذج لم يعد يؤدي وظائف كان يؤديها من قبل، من مثل تنظيم انتخابات نيابية كل أربع سنوات. الإنقسام حول هذا النموذج طريف في مكان ما: قسم من اللبنانيين يعتبرونه قليل الديموقراطية لأنه قليل الطائفية، ويطرحون معالجة ذلك برفع منسوب تطييف النظام لأجل توسيع القاعدة الديموقراطية للصيغة الطائفية، والقسم الآخر يعتبره قليل الديموقراطية لأنه كثير الطائفية، وكثيراً ما يذهب أهل هذا الرأي إلى تفسيرات اختزالية تبسيطية تتعامل مع الطائفية كما لو كانت مخدّراً تبثه «الطبقة السياسية» بين الناس لتطويعهم.
تأجّل الإستحقاق الآن سنة إضافية في مقابل التوصل لقانون انتخاب. لا يمكن تسويغ أي يوم إضافي يمرّ على البلد من دون الإحتكام إلى صناديق الإقتراع، وفي نفس الوقت، ثمّة مشكلة غير قانون الإنتخاب، تتعلّق حقيقة بالأساس السياسي للمنازلة في الإستحقاق العتيد. عندما تتخلى عن نظام التصويت الأكثري لصالح النسبي، ولو كانت بخمس عشرة دائرة، وعندما تشترط اللوائح المقفلة، ولو كان بالصوت التفضيلي في القضاء، فمعنى هذا أنّ الإستحقاق هو لمنازلة سياسية بالدرجة الأولى، تتعلق بترجيح الكفة في «لعبة الحكم»، وليس لإشباع حاجات إنمائية معزولة عن السياق الوطني العام. لكن هل هذا حقاً الجو الموجود اليوم؟ هل سيولد هذا المناخ في الأشهر المقبلة، فتعود نسمة «تسييس» للمعركة الإنتخابية بدلاً من «بوانتاجات» تُذاع هنا وهناك على الدوام لا يسأل معدّوها عن طبيعة الشعارات السياسية التي تبرر المنازلة في الإنتخابات المقبلة؟ وأكثر: هل هي شعارات تكفل الخروج في أيار 2018 من تسع سنوات «ركود» لبناني قابلتها في نفس الفترات سنوات أعاصير وزلازل عربية لم تنتهِ بعد؟ أم أن الركود والسُبات، قياساً على هذه الأعاصير والزلازل هي بمثابة «ستر وغطاء»، وأنّ الفراغ الحكومي ثم الفراغ الرئاسي والتمديدات للمجلس النيابي، لعبت كلها أدواراً ايجابية غير مقصودة من خلال إبعاد التصادمات عن البلد، في الوقت الذي غرق فيه الجوار العربي بالصدامات الأكثر دموية؟ هل هرم اللبنانيون في التسع سنوات الأخيرة؟ هل يزدادون هرماً العام المقبل؟