تنطوي العبارة اللافتة التي اطلقها الرئيس سعد الحريري في اطلالته التلفزيونية الاخيرة، والتي دعا فيها الامين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله للعودة الى لبنان كما عاد هو، على أبعاد رمزية مجازية وعلى بُعد “طرائفي”، ولكنها بحسب قراءة دوائر الرصد والمتابعة في الحزب تستبطن في ثناياها وخلفياتها دعوة جلية الى تكريس فلسفة حكم وشركة سياسية جديدة
الدوائر عينها لم يباغتها مضمون هذا الكلام، فقد تناهى الى مسامع الضاحية الجنوبية منذ عودة الرئيس الحريري من الرياض اكثر من رسالة بهذا المعنى وبهذا المضمون في بعض منها ما مفاده: ان عليكم ضرْب الصفح عن اصوات عالية تنطلق من عندياتنا ضدكم، فهي عدة شغل لا تملك أيماننا سواها في الوقت الحاضر.
الامر ذاته صار بالنسبة الى الحزب ثابتة خصوصاً عندما رصد بدقة المسار السياسي للحريري عقب عودته من غيبته الكبرى، ولاسيما تمسكه بمؤسسات التلاقي والحوار الثلاث القائمة منذ فترة والتي يتحاور فيها الطرفان، الى صموده في وجه الضغوط الخليجية عليه والرامية الى مواجهة افعل في الصراع الداخلي.
ولكن الحزب ازداد ليل اول من امس يقيناً بان زعيم “التيار الازرق” ما عاد من منفاه الا ليشرع في التمهيد لتجربة حكم وشركة جديدة، وانه يدرك جيداً مدخلها الحقيقي وهو الحزب دون سواه.
وعليه، فان الحزب على دراية بان الحريري العائد سعى في الاشهر القليلة الماضية الى تجميع اوراق ارادها ان تعزز حضوره في وجه الحزب وتقوّي موقعه في اي جلسة تفاوض مستقبلية معه. وابرز هذه الاوراق:
– تزكية زعيم “تيار المردة” النائب سليمان فرنجية مرشحا للرئاسة الاولى مع ما يعني ذلك من خلط اوراق الحزب في الساحة المسيحية تعزل حليفه الاكبر فيها، اي العماد ميشال عون، او على الاقل تحرج علاقته مع الحليف الاخر النائب فرنجية.
– اعادة وصل ما انقطع من علاقة مع شخصيات سنية محسوبة تاريخيا على انها حليفة الحزب في مقدمها الوزيران السابقان عبد الرحيم مراد وفيصل كرامي، وتصوير ذلك على انه مقدمة لتجريد الحزب من حلفائه في الشارع السني.
– العمل على تكريس معادلة فحواها ان رئيس مجلس النواب نبيه بري قد بات اقرب في توجهاته وقناعاته الى ما يطرحه الحريري في ما خص ملف الانتخابات الرئاسية وفي ملفات اخرى، خصوصا ان بري تخلى عن تقيته وبات يعلن اعتراضه على ترشيح عون لسدة الرئاسة.
– تعزيز حضور حزب الكتائب في الشارع المسيحي على نحو يجعله صاحب الصوت الاعلى ليسد السبل امام شركائه في هذا الشارع، وهو ما يراد منه ان افتراق “القوات اللبنانية” وتمايزها عن 14 اذار لم يغير في واقع الحال كثيرا.
وعليه، يعرف الحزب ان الحريري إذ يطلق دعوته الى السيد نصرالله لولوج عتبة تسوية، انما يحاول ان يوحي بان في حوزته هذه المعطيات والوقائع واوراق قوة اخرى تجيز له التعامل بندية مع الحزب. لكن الدوائر عينها التي تفصح عن ان قيادة الحزب لن تسارع الى اعطاء جواب عن الدعوة التي وردتها للتو، بل هي على جاري العادة ستأخذ وقتها، تدرك ان الحريري انما يمارس عملية مناورة وتضخيم اوراق، فهو يعرف ان فرنجية ما زال يرهن نزوله الى مجلس النواب بكلمة من الحزب، وهذا من شأنه ان يبدد المواعيد التي يعلنها الحريري ليوم انتخاب رئيس ينهي الفراغ، ويعرف ايضا ان بري ليس في وارد “كسر كلمة السيد نصرالله عند لحظة الموقف الفصل” كما ابلغ رئيس المجلس احد نواب الحزب.
ومن هذه المنطلقات فان الحزب لن يغريه عرض الحريري الضمني ليعود الى القبول بمندرجات تسويتين سابقتين خاض غمارهما معه في ربيع 2005 وفي صيف 2008 اي تسويتي التحالف الرباعي واتفاق الدوحة. فالحزب لم يعد يخفي انه صار يعتبر ان ظروف التسويتين السابقتين تحولت وتبدلت رأسا على عقب ولم يعد في الامكان القبول بشروطهما لاعتبارين: الاول لان الطرف الاخر عمل على التحلل منهما بل الانقلاب عليهما، والثاني ان المعادلات الداخلية والخارجية تبدلت وهو كلام سمعته الكوادر العليا في الحزب في لقاءات مغلقة.
في التسويتين السابقتين ثمة وقائع وحسابات املت على الحزب الارتضاء بهما لتجاوز تداعيات حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ولامتصاص آثار احداث 7 ايار عام 2008 وتحاشي فتنة مذهبية كان ثمة من يلوح بها في ذلك الحين.
لذا لا يمكن بعد 8 سنوات على آخر تسوية وفي وقت كرر السيد نصرالله ثلاث مرات في خطبه الثلاث الاخيرة القول بصوت عال انه سيكون حيث يتعين ان يكون ويفتح باب المواجهة على مصراعيه مع الرياض، وبعد الدور المحوري للحزب في الميدان السوري وميادين اخرى، وفي وقت صار واضحا بالنسبة اليه ان اي تسوية يتحتم اجراؤها في سوريا هي حتما لمصلحة المحور المنضوي تحت لوائه، لا يمكن الحزب ان يتجاوب ببساطة مع دعوة بالعودة الى الداخل والتخلي عن دوره الاقليمي والجلوس مع “المستقبل” الى طاولة لينسج واياه خيوط تفاهم يعلن الحريري سلفا شروطه العريضة. انه بالنسبة الى الحزب عرض لا يستحق التوقف عنده والبناء عليه، اذ لا يمكن الحزب ان يقبل بالتعامل معه على انه خاسر في معقله في حين يعامل هو نفسه على انه رابح في الساحات التي يرى وجوب ان يكون فيها، فضلا عن ان الحزب تجاوز منذ زمن الخشية من محظور فتنة مذهبية خصوصا بعد التجربة الاخيرة.
في اللقاء الاخير الذي انعقد بين زعيم “المردة” والسيد نصرالله، سأل الاول عن “الخطة ب” التي يتعين توافرها اذا ما ظل الفريق الاخر مصمماً على رفضه التصويت لعون، فكان جواب السيد صريحا وحازما: “صمودنا جعلهم يرسلون وراءك ويسمونك من خارج كل الحسابات مرشحهم للرئاسة الاولى، واستمرار هذا الصمود يجعلهم يعيدون حساباتهم”. لذا فالحزب يراهن على عامل الوقت ولا يبدو مستعجلا للتفاعل مع عرض الحريري لانه على يقين مما سيليه.