يطيب لمن يتولون الحوار بين “التيار الوطني الحر” وحزب “القوات اللبنانية” بمواكبة مجموعة سياسيين وقياديين التوقف ملياً والمباهاة بنتائج حققها هذا الحوار ما كانوا منتبهين لها ولا كانت في دائرة أهدافهم المنظورة. في الطليعة ان التقاء القوتين الكبريين – وإن من دون إعلان لـ”إعلان النوايا” ذات الـ17 بنداً- أراح اللبنانيين المسيحيين وصالح “وجدانياً” في ما بينهم بعد طول زمن كانت سياسة كل من الفريقين خلاله قائمة على عداوة الفريق الآخر، تقبيحه بل “شيطنته”.
فلندَع الرئاسة جانباً ما دامت مسألة إقليمية تتجاوز قدراتنا.
فَتحَ الحوار المتمادي أعين هؤلاء الذين يتولونه ويواكبونه على زوايا أخرى… على إمكانات كبيرة وواسعة مفتوحة أمامهم في ما لو وحّدوا جهودهم وثقلهم مع ما تبقى من قوى مسيحية في قضايا محددة مثل وضع قانون جديد للانتخابات. تُسمَع أصوات من الجانبين وحولهما، كما من الكنيسة، تحض على ملء الوقت الضائع حالياً في انتظار جلاء غبار المعركة الكبيرة الدائرة في المنطقة، من سوريا إلى العراق واليمن على خلفية سنّية – شيعية أو سعودية (عربية) – إيرانية. على ملئه بالسعي إلى تصحيح مظاهر خلل في دولة ركبت في مرحلة ما بعد الطائف على حساب المسيحيين ودورهم وحضورهم.
يحسب بعض من الفريقين فوائد أخرى للحوار يمكن وصفها بالـ”ذاتية” لكل منهما. بعضٌ تغويه فكرة أن الطرفين إذا اجتمعا فماذا يتبقى لأحزاب وقوى أخرى ومستقلين؟ (“المستقلون”؟ لعل هذه أكثر كلمة تحمل رئيس “القوات” سمير جعجع على الابتسام) ومَن هم هؤلاء؟
يستطيع “التيار” و”القوات” مجتمعَين، دعوة أي طرف آخر من المسيحيين للصعود إلى الميزان، أو النظر في المرآة ليستخلص النتيجة بنفسه. هذه فوائد ذاتية للطرفين المتحاورَين.
السلبيات حاضرة أيضاً وعميمة. ففي ظل الحوار المستديم والمتمادي، والذي لا يبدو حالياً في وارد إطلاق دينامية هادفة تولد حركة سياسية في البلاد، وتستعجل انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة بناء هذه الجمهورية، يسود فراغ وخواء هائلان، لعلّ أكثر ما عبّر عنهما هو إعطاء وسائل الإعلام الأولوية في النشرات والبرامج على مدى أيام لحادث مأسوي غيّب فناناً شاباً (عصام بريدي، الله يرحمه). فمن دون سياسة تطغى الاهتمامات التلفزيونية عند المسيحيين. ثم، ليس من عبث تكثر استقبالات الفنانين في معراب هذه الأيام.
هناك الوجه والقفا أيضاً. في السلبيات التي لا يراها المتحاورون أن هموم الجمهور انتقلت عنهم منذ زمن إلى أمكنة أخرى تختصرها كلمة واحدة: الأقساط. أقساط للمدارس، للجامعات للمصارف لا فرق. بفعل ضغط الهموم المعيشية على الناس وغيابها عن خطاب قيادتي “التيار” و”القوات” وأولوياتهما- وهما “المنذورتان” للقضايا الوطنية والسياسية الكبرى – سقط في المرتبة ومن العيون حوار “الأخوين العدوين”. ثم إن صدامات بداية التسعينيات من القرن الماضي مضى عليها ربع قرن. والناس الذين اختلفوا وتخانقوا بسببها تصالحوا بمرور الزمن باستثناء حزبيين متعصبين لم تعد المسألة هذه تعني غيرهم. وخطأ الإعتماد على نتائج الإنتخابات الطالبية في “جامعات المسيحيين” إذا جاز التعبير، للحكم بأن الناس في الإجمال هم “عونيون أو قواتيون” فتعالوا نجتمع ونرفع رأسمالنا معاً ونقتسم الأرباح – المغانم، أو “الجبنة”.
لا تشجّع نظرة إلى أعداد المنتسبين سواء إلى “التيار” أم “القوات” على هذا الإختزال. كما إن عوامل استمرار القوة التمثيلية غير متوافرة لأيٍ منهما، نظراً إلى شخصانية تفرض نفسها في القيادتين “التاريخيتين حقاً”. يستحيل إنكار قدرة كل من الدكتور سمير جعجع والنائب الجنرال ميشال عون على نقل محازبيه من ميل إلى ميل 180 درجة من دون أن يسمع أو يقرأ أي اعتراض أو انتقاد، علناً على الأقل. انضباط مثالي في القواعد يستحق الرجلان التهنئة عليه، وإن دل على نوع من تقتير في حرية التفكير والرأي والتعبير في الجسمين الحزبيين، وعلى خللٍ ما في كل منهما، بتفاوت ربما. يستطيع العارفون حقاً التأكيد براحة ضمير تامة أن لا “قوات” من دون الدكتور جعجع، ولا “تيار” من دون الجنرال عون.
ولكن يبقى الاغواء الاخير لهما اختزال الناس بالمحازبين والأنصار، كما تبقى في الذاكرة مرحلة قريبة من حرب لبنان، كان يُمكن حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار الزعم خلالها أنهما يمثلان غالبية المسيحيين الساحقة. اليوم بعد عقود قليلة، أين هما من ذلك الزعم، الكتائب والأحرار؟