على وقعِ تردُّدِ صدى التشكيلات القضائية في أروقة المحكمة العسكرية وموجةِ التحليلات التي ولّدتها، والوجوه التي تستعدّ المحكمة لاستقبالها وأخرى ستودّعها، انطلقَت أمس المحاكمات في ملفّ «أحداث عرسال» بعدما تمّت تجزئته إلى 8 ملفّات نظراً إلى أنّه يضمّ 111 متّهماً بينهم 76 موقوفاً، وذلك بحسب الأفعال المسنَدة إلى المتّهمين وحجم أدوارهم.
كلّما كذبوا فضَحتهم أجسادهم. بهذه العبارة يمكن اختصار اليوم الطويل الذي شهدته المحكمة العسكرية الدائمة بعدما باشرَت في استجواب المتّهمين في أحداث عرسال (2 آب 2014) والتي أسفرَت عن استشهاد ضبّاط وجنود، وخطفِ عددٍ منهم قبل أن يتبيَّن أنّهم استشهدوا.
إذ كان يكفي النظر إلى أجساد المتّهمين من دون الإصغاء إلى اعترافاتهم الأوّليّة أو مضمون استجوابهم، لتقدير مدى انغماسهم في المعركة، ومعرفة الأدوار التي كلّفهم بها قادة التنظيمات الإرهابية وأبرزُها «داعش»، «جبهة النصرة»، «فجر الإسلام» و«الفاروق». منهم من بُتِرت ساقه، وآخر ساقاه ويده، وآخر أصابع يدِه، ورابع يَعرج…
في التفاصيل
«إكتمل السَّوق؟»، كان السؤال الأكثر تكراراً في بهو المحكمة العسكرية منذ العاشرة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، محامون وصحافيون وأمنيون حاوَلوا الاستفسار، على اعتبار: «إذا ما اكتملَ سَوق المساجين، ما في جلسات».
إلى أن وصَل الخبر اليقين عند الثانية عشرة وعشر دقائق، حين توجَّه العميد حسين عبدالله رئيس المحكمة العسكرية الدائمة ليفتتح الجلسات، تُعاونه القاضية ليلى رعيدي، وفي حضور ممثّل النيابة العامة كمال نصّار. تضمَّن جدول أعمال المحكمة أكثر من 25 جلسة، حملت أسماء حافلة بالسوابق الإرهابية، منها عماد جمعة الملقّب بـ«أبو أحمد جمعة» الذي سرَّع توقيفَه قرارُ الهجوم على عرسال، إلّا أنّ جلسته أُرجئت إلى 12 تشرين الاوّل الجاري، كالجلسات التي أرجِئت لعدم سَوق أحدِ المتّهمين أو لغياب أحد وكلاءِ الدفاع.
«الكوبرا» يتراجع….
مِن بين الأسماء التي استُجوبَت، السوري عبدالله يحيى رحمة (1990) الملقّب بـ«أبو خالد كوبرا»، وهو قائد مجموعة من تنظيم «داعش» مقرَّب من عماد جمعة، وهو من القياديّين الذين شارَكوا في الاعتداء على الجيش إلى جانب الإرهابي يحيى الحمد الملقّب «أبو طلال»، ومِن بين الذين شارَكوا في أَسر العسكريين.
حاوَل العميد عبدالله مراراً تذكيرَ رحمة بماضيه المنغمِس بالفصائل الإرهابية، إلّا أنّ رحمة أنكَرَ مراراً، «لا علاقة لي بالتنظيم، لم أكن أحمل سلاحاً». وبعد أخذٍ وردّ، قال: «كنتُ فقط أعمل لوجستياً، أقوم بجردة أسماء للمنتمين إلى عماد جمعة».
لكنّ رحمة كان قد اعترَف في إفاداته الأوّلية «أنه عام 2011 شارَك في المظاهرات المعارضة للنظام السوري في القصَير، وبعدها انتمى إلى «كتائب الفاروق» التي كان يَرأسها موفّق الجربان الملقّب «أبو السوس».
وأضاف: «بعد سقوط القصَير عام 2013، انتقلَ معظم المسلّحين إلى القلمون، وكنتُ من بين الذين انتموا إلى «لواء فجر الإسلام» في يبرود والذي كان يَرأسه السوري عماد جمعة، وكان يضمّ 500 مسلّح، وكان مركزي في سهل رنكوس وبدأتُ أتقاضى راتب 300 دولار، ثمّ سلّمني جمعة الأمورَ اللوجستية في اللواء، ومهمّتي تأمينُ المواد الغذائية والمحروقات لعناصر اللواء، إضافةً إلى معركة يبرود، منطقة الفنادق. وبعد سقوط يبرود انسحَب جميع المسلحين إلى وادي ميرا- جرود عرسال».
أوكِلت إلى رحمة مهمّة تسليح وتجهيز المقاتلين وإحصاء الأسلحة والذخائر والأعتدة في مقرّات اللواء في وادي ميرا.
واعترف «بأنّه كان يرافق أحياناً قائد اللواء جمعة إلى مقرّات القيادي في «جبهة النصرة» أبو مالك التلي لعقدِ اجتماعات أمنية». ولفتَ إلى «أنّه في إحدى المرّات طلبَ جمعة من أبو مالك التلّي تجهيزَ جميع المقاتلين كونه يتمّ الإعداد لهجوم كبير يضمّ كلَّ الفصائل الموجودة في الجرود من «داعش» و«النصرة» والجيش الحرّ، بهدفِ اقتحام قرى محاذية لعرسال وللحدود السورية وقرى شيعية ومسيحية مِثل رأس بعلبك والقاع».
وأضاف: «بسبب تأخّرٍ من بعض الأشخاص ووقوعِ خلافاتٍ بين التنظيمات، خصوصاً بين جمعة والقيادي الداعشي الملقّب بـ«الأهوازي»، تأجّل المشروع، وفي تمّوز 2014 وبسبب مضايقات من «جبهة النصرة» أعلن جمعة مبايعة تنظيم «داعش» عبر تصويره فيديو، وكنتُ أقفُ خلفَه مشاركاً في المبايعة».
فتيل المعركة
ويَروي رحمة في اعترافاته «أنّه في 1 آب 2014، توجَّه جمعة إلى عرسال لزيارة عائلته، وفي اليوم التالي، وقبل اندلاعِ أحداث عرسال أشيعَ خبرُ توقيف جمعة من قبَل الجيش اللبناني.
وفي اليوم نفسِه وَقعت المعركة، إذ توجَّهتُ مع مجموعة من «لواء فجر الإسلام» التي كانت بأمرتي، وشنّينا هجوماً على حاجز وادي حميد، وأطلقنا النارَ مباشرةً عليه ووقعَ الاشتباك نصفَ ساعة وجاء الردّ قوياً مِن الجيش اللبناني».
ويَعترف كوبرا بأنّه لم ينجح في إسقاط الحاجز: «انسَحبنا، ثمّ دخلتُ بمفردي عبر الفتحة لمؤازرة أبو طلال، حينها علمتُ أنّ أبو حسن الفلسطيني اقتحَم حاجز وادي الحصن وأسَر 7 عسكريّين واستولى على آلياتهم، وشاهدتُ مجموعةً من المسلّحين التابعين لـ«جبهة النصرة» يَرأسهم ميقاتي شروف واسكندر عامر يُحضِرون عسكريّين من مخفر درك عرسال، وأعتقد أنّهم نحو 15 عنصراً ويرافقهم الشيخ مصطفى الحجيري «أبو طاقية»، كونه الأميرَ الشرعي لـ«جبهة النصرة» ومقرَّباً من أبو مالك التلّي».
وقد نُقِل العسكريون إلى مستشفى «أبو طاقية» وهناك شاهدتُ مسلّحين ملثمين من «جبهة النصرة» وبإشراف «أبو طاقية» يقودون العسكريين إلى داخل المسجد في الطابق الثاني».
«تصَرف» بالعسكريين
وتوقّف رحمة عند الاجتماع الأمني الذي شارَك فيه، وعقِد في وادي الأرنب بين «أبو طلال» وميماتي وكريجيه وعبدالله الأهوازي وأبو مالك التلّي: «أخذ الأهوازي قرارَ ضربِ المهنية في عرسال، وبالفعل هجَم ومجموعته التابعة لـ«جبهة النصرة» على المهنية، وحينها سَقط عدد من العسكريين وأُسِر آخرون.
وفي اليوم الثاني أشيعَ خبرُ مقتل أبو حسن الفلسطيني وعيّن أبو عبد السلام الشامي خلفاً له أميراً لتنظيم «داعش» في القلمون، وقد كلّفه والي الشام أبو أيوب العراقي التصرّفَ بالعسكريين المخطوفين لديهم».
وأضاف: «علمتُ أنّ العسكريين محتجَزون في جرود بلدة نحلة المجاورة لجرود عرسال. وقد ذهبتُ إلى هناك برفقة أبو طلال و«الزميل» اللذين رافقا أبو علي زلفه لتصوير العسكريين المخطوفين عبر فيديو من خلال الهاتف.
بعد أيام عدة من انتهاء المعركة في عرسال، انسحبَ المسلحون إلى الجرود وعدتُ ومجموعتي إلى جرود ميرا. وقد كُلّف «أبو طلال» للتفاوض بقضية العسكريين المخطوفين لدى «داعش» نظراً لعلاقاته في عرسال».
وأشار رحمة إلى «أنّها المرّة الأخيرة التي شاهد فيها العسكريين في وادي النحلة، وعلمتُ لاحقاً أنّهم موجودون في منطقة الزمراني ضمن مغارة كبيرة و«أبو بلقيس» مسؤول عنهم شخصياً، وقد أصدرَ قراراً بعدمِ تداولِ أحاديث بشأنهم، بعدما حفرَ الأخير خندقاً يصل الزمراني بمرطبيا نحو 20 كلم ويتنقّل من خلاله».
نصيحة العميد
بقيَ رحمة متمسّكاً بإنكار ما سبقَ واعترَف به، رغم التفاصيل الدقيقة التي أدلى بها. موقفُ الإنكار نفسه تبنّاه معظم المتّهمين المستجوَبين، فنَصَحهم العميد عبدالله بعدمِ التلطّي خلف الحقيقة قائلاً: «لا نفعَ من إنكار الإفادات الأوّلية «مش لمصلحتكن هالمقاربة»… وكأنّ دور الأجهزة الأمنية تجِيبْ ناس من الملاجئ وتحَقّق معُن، كلكّن أبرياء وما كأنْ صار شي، وما كأنْ سقط شهداء».
من بائع إلى قائد مجموعة
ونادى العميد عبدالله خالد أحمد قرقوز (1985) وقد عُرف بلقب «الزميل» نظراً إلى دوره بتسبّبِ انشقاقِ زملائه العسكريين السوريين، إذ كان يتّصل بهم ويَحضّهم على الانشقاق.
وهو متّهَم بالانتماء إلى «داعش» وبالمشاركة في الهجوم على مراكز الجيش في عرسال، وكان المسؤول الأمني والإعلامي في تنظيم «فجر الإسلام» بقيادة جمعة الذي بايعَ «داعش». وكان «الزميل» يَملك محلّ «بالة» لبيع الألبسة، وقد أصيبَ خلال معركة عرسال في يده وبتِر له إصبعان.
وأنكرَ القرقوز أيَّ انتماءٍ إرهابي، رغم أنه سبقَ وأدلى باعترافاته الأوّلية «أنه خلال العام 2004 التحقَ بالجيش السوري، وتحديداً شعبة المخابرات، بصفته رقيباً أوّل، وفي 17/12/2012، انشقَّ عن الجيش السوري، ولدى انشقاقِه أخَذ معه مسدّسَه الأميري وأدخله إلى عرسال».
ولفتَ القرقوز إلى أنه «انتمى إلى «لواء فجر الإسلام» بقيادة جمعة، ولاحقاً بايعنا «داعش»، وانتقلتُ على رأس مجموعته ودخلنا عرسال، وشارَكنا في قطعِ الطرقات والاشتباك مع الجيش اللبناني، وقد اقتحمنا بعضَ الحواجز وتمّ أسرُ عددٍ من العسكريين».
وأنكرَ «الزميل» وجود أيّ علاقة له بذبحِ العسكريين، وذلك ردّاً على سؤال له في التحقيقات الأوّلية: «لقد ورَد اسمك في إفادة الموقوف محمد علي المحمد أنّ أحكام الإعدام ذبحاً بحقّ العسكريين التي نُفِّذت صَدرت عن اللجنة الأمنية في «لواء فجر الإسلام» والتي كنتَ ترأسُها أنت».
لكنْ بعد تحليل اتّصالاته على خطِّه اللبناني والاطّلاع على الرسائل القصيرة تبيَّنَ خلالها أنّه شارَك في المعركة وتَواصَل مع عدد مِن أرقام الإرهابيين. وبرسالةٍ على الرقم 79/1547… طلب مرسِلُها في 2 آب 2014 بدءَ المعركة، ممّا كشَف أنّه كان قائدَ مجموعته.
بقي «الزميل» ينكر ما سبق واعترف به، مؤكداً «انه لا يملك خَطاً لبنانياً»، و»انّ أصابعه لم تُبتر في عرسال إنما بسبب حزام في مضخّة للمياه. وقد تلقّى علاجاً في مشفى عسكري في سوريا قبل الاحداث».
وفي الختام، أرجأ عبدالله جلسة «الزميل» و«كوبرا» إلى 12 من الشهر الجاري.