IMLebanon

“قانون تجريم التعذيب”:هل يُطبَّق كي لا تُظلَم الضحايا مرّتين؟

 

إطلاق الورقة البحثية حوله في مؤتمر صحافي غداً

 

يحتضن أوتيل جفينور روتانا – الحمرا الساعة 9:30 من صباح يوم غد الجمعة مؤتمراً صحافياً لإطلاق الورقة البحثية حول “قانون تجريم التعذيب: التعطيل ودور القضاء”، والذي يحمل الرقم 65/2017، بالتعاون بين مؤسسة فردريش إيبرت الألمانية – مكتب لبنان، ومحامين من لجنة الدفاع عن المتظاهرين. أما الدافع، فهو مرور خمس سنوات على إقرار القانون الذي بقي حبراً على ورق، وعدم البتّ بأكثر من 17 شكوى تعذيب تمّ تقديمها إلى النيابة العامة التمييزية بحسب الأصول، لتُحال بعدها إلى المحكمة العسكرية وينتهي بها المطاف – كعادة الأمور في كثير من الأحيان للأسف – محفوظة في الأدراج بين شكاوى عديدة أخرى.

ضحايا ثورة 17 تشرين ومن سَبقهم وتلاهم ممّن سقطوا بسلاح شرعي وآخر متفلّت شاخصون في الأذهان. كذلك هي أساليب القمع التي طوّرتها السلطة وأجهزتها من استخدام الغاز المسيّل للدموع والرصاص المطّاطي وتصويبه على الرؤوس والأعناق في خرق واضح لكلّ المعايير الدولية. ناهيك بإطلاق بعض الأجهزة الأمنية الرصاص الحي مباشرة على المتظاهرين وهو ما وثّقته منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها للعام 2020. ثم هناك خلاصة البيانات الصادرة عن لجان المحامين ومنظمات غير حكومية معنية بحقوق الإنسان، والتي أشارت إلى أن أكثر من 1000 شخص تعرّضوا للعنف والتعذيب في الساحات العامة أو في أماكن احتجازهم، ما أسفر عن إصابة حوالى 800 منهم توزّعت إصاباتهم بين ضرر دائم وفقدان النظر أو السمع وكسور في كافة انحاء الجسد. فوق هذا وذاك، يأتي الأثر النفسي والاجتماعي على ضحايا تلك الممارسات، وتعرّض حوالى 220 موقوفاً للضرب والتعنيف والتعذيب بالكهرباء وغيرها من الوسائل، كما منعهم من الاتصال بمحاميهم وذويهم أو طلب أي تقرير طبي يثبت واقعهم.

 

قبيل المؤتمر الصحافي وعلى ضوء ما سبق وذكرنا، قامت “نداء الوطن” بجولة قانونية قضائية على متابعين للملف للوقوف على تفاصيل المؤتمر وآخر التطورات على صعيد القضايا ذات الصلة.

 

لا للسكوت على التعدّيات

 

البداية مع المحامية لمى الأمين، وهي واحدة من الباحثين الذين عملوا على الورقة البحثية. وقد أوضحت لـ”نداء الوطن” أن عمل “لجنة المحامين المتطوعين للدفاع عن المتظاهرين” بدأ فعلياً منذ العام 2015 مع احتجاجات حركة “طلعت ريحتكم”. إذ رغم توقف العمل بعدها، إلا أن دفاع المحامين عمّن تم تحويلهم إلى القضاء استمرّ بشكل تطوّعي كي يُستأنف العمل مجدداً مع ثورة 17 تشرين. وتشير الأمين إلى أن الإشكالية مطروحة منذ أن أًقرّ قانون تجريم التعذيب في العام 2017، لكنها تفاعلت أكثر مع ثورة تشرين، بعد أن تم حفظ الشكاوى المقدّمة من دون تنفيذ أحكام القانون تجاه قضايا إنسانية بالدرجة الأولى.

 

فريق عمل اللجنة يتألف من مجموعة محامين متطوعين، إضافة إلى الإداريين أو فريق التوثيق: “لدينا خط ساخن للشكاوى يقوم من خلاله عدد من طلاب الحقوق بتسجيل المعطيات والوثائق ممن تعرّضوا للتعذيب أو من ذويهم، كما تحديد الأجهزة التي قامت بالاعتقال”، بحسب الأمين. هذا إضافة إلى عدد من الباحثين الذين تقتصر مهمتهم على التوثيق عبر وسائل الإعلام، لعرض الوسائل المستخدمة لقمع المتظاهرين أو عدد الاستدعاءات والتوقيفات، كذلك أماكن التوقيف وطُرق التعذيب المستخدمة وغيرها.

 

من جهة أخرى في ما يتعلق بالأهداف الأساسية للمؤتمر، تقول الأمين: “الهدف الأساسي هو تسليط الضوء على أهمية استقلالية القضاء، إذ بدون قضاة مستقلّين سياديين مهنيين مختصين لا يمكن تطبيق القانون”. لذا سيتمّ عرض السياق الزمني والقانوني والقضائي لجرم التعذيب في لبنان، كما أثر انعدام استقلالية القضاء على قانون تجريم التعذيب الحالي وطرح الإشكاليات القانونية التي تتيح تفريغ القانون من غايته ضمن استخدام معايير أساسية في مقاربة الحلول مع توصيات معيّنة. وسيحضر عدد من المحامين والقضاة وموكّلي الأجهزة الأمنية والناشطين في لبنان كما في منظمات عالمية لمناقشة النقاط السابقة وطرح وجهات النظر حول كيفية تخطي المعوّقات.

 

عن التعاون مع مؤسسة فردريتش إيبرت، توضح الأمين أنه، بعد متابعة ما حصل خلال التظاهرات، تقرّر كتابة الورقة البحثية بالشراكة مع المؤسسة، والتي تتضمن تقريراً يظهر ما تعرّض له المتظاهرون ويوضح ثغرات القانون المُطالَب بتصحيحها والتوصيات التي رُفعت وأُبلغت لكافة الجهات الأجنبية والمنظمات المعنية بالموضوع. والحال أن تلك الجهات أكّدت على المطالب لا سيما بعد زياراتها مراكز التوقيف ومتابعة كيفية العمل فيها عن كثب.

 

وتختم الأمين: “نطلب من كل من يتعرّض للتعذيب التوجّه بالمعطيات إلى القضاء وطلب تقرير طبيب شرعي. لا يجب السكوت عن أي تعدّ، لأن الأجهزة التي تقوم بالتعنيف والتعذيب هي نفسها الأجهزة المخوّلة حمايتنا بحسب القانون”.

 

القانون… هل ثغراته مقصودة؟

 

للغوص أكثر في حيثيات قانون تجريم التعذيب رقم 65/2017 وثغراته، كان لـ”نداء الوطن” حديث مع عضو الهيئة الإدارية في جمعية Restart لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، المحامي جاد طعمة، الذي استهل كلامه موضحاً أن القانون صدر تزامناً مع إنشاء قانون المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان تحت رقم 62/2017. كما أشار إلى أن القانونين المذكورين تم إقرارهما نتيجة أكثر من 50 توصية توجّهت بها لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة إلى لبنان بعد تأخره 14 سنة عن تقديم تقاريره، حيث صُنّف التعذيب جناية أو جنحة بحسب خطورة الفعل المُمارَس على الشخص. ويضيف طعمة: “اعتُبر هذان القانونان خلاصة جهد بدأ من نهاية التسعينات من قِبَل المجتمع المعني بحقوق الإنسان، وقد كانت جمعية Restart إحدى الهيئات التي عملت عليهما مع العديد من النواب وأعضاء لجنة الإدارة والعدل كما لجنة حقوق الإنسان”.

 

القانونان تشوبهما ثغرات عدة، أبرزها يتعلق بالتطبيق الفعلي كي لا يبقيا نصوصاً لا أكثر. فالمفارقة أن مراسيم تعيين أعضاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، كما المراسيم التطبيقية لفتح اعتمادات خاصة بهم، لم تصدر إلا منذ فترة وجيزة. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل، بحسب طعمة، على أن “السلطة اللبنانية لا تريد تطبيق القانون لكنها تخشى على سمعتها أمام المحافل الدولية. لذا يبدأ تفعيل النصوص القانونية من النيابة العامة التي ما زالت ترفض المسّ بمعنويات الضابطة العدلية”. في هذا الإطار، وسعياً لنشر الوعي بين الأجهزة الأمنية، تنظّم جمعية Restart منذ العام 2010 ورش عمل تخصصية يتمّ من خلالها تدريب ضباط ورتباء من الأمن العام وأمن الدولة وقوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني، ما أسفر عن تطوير لجان حقوق الإنسان داخل كل من تلك الأجهزة والمؤسسات.

 

ثغرة أخرى يشرحها طعمة لنا تتعلق بغموض النصوص القانونية التي لا تُحدّد بوضوح المحكمة المخوّلة البتّ في شكاوى التعذيب: “خلال ثورة تشرين، تقدّمنا، نحن مجموعة محامين متطوعين، نيابة عن الضحايا، بشكاوى أمام النيابة العامة التمييزية، نتيجة ممارسات تعنيف قامت بها كافة الأجهزة الأمنية لا سيما مخابرات الجيش اللبناني. وقد تم تحويل الملف إلى المحكمة العسكرية، ما أدّى إلى إشكالية كبيرة”. وتابع متسائلاً: “معقول نحنا يلّي عم نتشكى عالعسكر، بيبعتونا عالمحكمة العسكرية؟”.

 

ومن الثغرات أيضاً الالتباس حول تصنيف مصطلح “التعذيب”. ففي وقت يحصر القانون الرقم 65/2017 التعذيب داخل أماكن التحقيق فقط، تنصّ اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقّعها لبنان العام 2000 على أن التعذيب يشمل استخدام أي موظف رسمي لقوّته ولصلاحيته تجاه أي شخص آخر في أي مكان.

 

طعمة اعتبر في نهاية حديثه أنه يحق لقاضي التحقيق أو للنيابة العامة أو حتى لأعضاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، ضمن قانون أصول المحاكمات الجزائية، الانتقال فجأة إلى أي سجن في لبنان دون إنذار مسبق لاستشفاف كيفية التعاطي داخل السجون، ما يخلق نوعاً من الردع لدى السجّانين. ولكن يبقى التساؤل: هل ثمة تواطؤ ما في التطبيق؟

 

العدالة… عثرات تلو العثرات

 

ننتقل أخيراً إلى مرجع قضائي مختص كان له دور فاعل في تعديل المادة 47، إذ لفت في حديث لـ”نداء الوطن” إلى أن إقرار قانون تجريم التعذيب كان خطوة إيجابية لكنها لم تتلاءم مع المعايير الدولية. وأضاف: “هناك خلاف بين قضاة يعتبرون التعذيب محصوراً فقط في فترة التحقيق والاستقصاء، في حين يركن آخرون إلى المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتي تنص على أنه، عند التطبيق أو عند النقص في القانون، تسمو أحكام الاتفاقيات الدولية على أحكام القانون الداخلي”.

 

أهمية أساسية لتطبيق قانون تجريم التعذيب تتجلّى في اعتماد أصول خاصة لملاحقة المرتكبين بما يضمن حقوق الضحايا. من هنا، يترتب على القاضي أن يقوم بالاستجواب بنفسه في ما خص قضايا التعذيب على عكس الجرائم الأخرى. كذلك، الاختصاص بالنظر في هذا النوع من الجرائم يعود إلى القضاء العدلي وليس إلى القضاء العسكري. فما العثرات التي تحول إذاً دون تطبيق القانون؟

 

السبب الأول، بحسب المرجع القضائي، هو النقص في المعرفة العامة لدى العاملين في حقل القانون والعدالة، كما لدى بعض المواطنين الذين لا يدركون حقوقهم. ثم هناك صعوبة إثبات التعذيب وتوثيقه وهو أزمة تعاني منها كافة دول العالم. وبالرغم من تعديل المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية في لبنان إلا أنها لم تُطبَّق حتى الساعة – وهي المادة التي تُعتبر أداة للوقاية من التعذيب، من جرّاء السماح للمحامي بحضور الاستجواب وتوثيق جلسات التحقيق بالصوت والصورة، كما لإثباته من خلال إعطاء الحق للضحية بتعيين طبيب شرعي.

 

سبب آخر أضاء عليه المرجع نفسه ألا وهو النقص في عديد الفريق الطبي الشرعي الجسدي والنفسي المتخصص، إذ إن غالبية هؤلاء لا يحملون شهادة طب شرعي. ويقول: “لسنا بحاجة إلى أطباء يكتبون تقاريرهم تبعاً للمحسوبية والطائفة والمنطقة، إنما نريد أطباء متخصصين لديهم القدرة على توثيق حالات التعذيب”. أضف إلى ذلك النقص في تقنيات التحقيق في الضابطة العدلية: “لو كانت الضابطة تملك تقنيات بعض الأجهزة الأمنية الأخرى، لأصبح موضوع الاعتراف أمراً ثانوياً، لأن الحصول على أدلّة من خلال وسائل متطورة يُغني عن استخدام العنف للوصول إلى اعتراف أثناء التحقيق”، وفق المرجع. فارتفاع معدّل الجريمة، كما يخبرنا أخيراً، لا سيما بعد تزايد موجة النزوح السوري والوضع العام وتدنّي قيمة الرواتب ضاعف من الضغط النفسي على موظفي المؤسسات الرسمية، فأصبحت القدرة على التحمّل لدى البعض شبه معدومة.

 

بين قوانين تم تعديلها وأخرى أغفل المعنيون عن تطبيقها، يبدو أننا لم نعد بحاجة إلى مؤسسات دولية – مشكورة طبعاً على جهودها – تتبرّع لتثقيفنا أو تنبيهنا لما يجب أن نقوم به وحسب. فجلّ ما نتطلّع إليه هو وجود أشخاص يعون حقوقهم من جهة وإلى قضاة يخافون الله ويطبّقون القانون في عملهم من جهة أخرى. هكذا يُجمع بالمحصّلة كثيرون ممّن هم على اطّلاع وثيق على هذه القضية الحساسة.