IMLebanon

اللبنانيون أمام تحدٍ جديد

مع تشديد الحصار على من تبقى من «داعش»، وتراجع حجم البقعة الجغرافية الموجود عليها إلى ما دون الـ20 كلم مربعاً، وفي لحظة فارقة في مسار العملية العسكرية الناجحة، لجهة اقتلاع المجموعات الإرهابية من كل سلسلة جبال لبنان الشرقية، وتحرير لبنان من حالة سوداء شكلت كابوساً على البلد كله، انتظر اللبنانيون معرفة أي جديد عن العسكريين المخطوفين التسعة لدى «داعش»، وفي مقدمة المنتظرين أهالي العسكريين الذين لم يتركوا باباً إلا وطرقوه دونما فائدة. وهذا الانتظار لم يأت من فراغ، فهناك من «الدواعش» من استسلم دون قتال لـ«حزب الله» وبينهم «أمراء»، وهم في هذه الجرود منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا بد عندهم معلومات عن مصير العسكريين التسعة، وعِوض وصول الخبر اليقين، وصلت دعوة مفتوحة للتفاوض عبر النظام السوري، علما بأن الإرهابيين مطوقون من الجهات كافة.

ليس من باب المساجلة، لكن لا بد من التأكيد، أن قضية العسكريين المخطوفين لدى «داعش»، هي اليوم إحدى أبرز القضايا الإنسانية التي تشغل اللبنانيين؛ ولأنها كذلك يستحيل هضم فكرة وضعها في البازار واستخدامها بما يخدم مصالح الآخرين ورغباتهم. وبهدف إنعاش الذاكرة؛ حددت القيادة العسكرية الأولويات بأنها إنجاز التحرير من الإرهاب والوصول إلى آخر سنتم من الحدود المرسمة مع سوريا، وأن كشف مصير العسكريين مسألة محورية، لكن الجيش لن يذهب إلى أي تفاوضٍ مع «داعش» قبل الكشف الدقيق عن مصير المخطوفين، وأنه لا انتظار ولا تردد ولا وقف للعمليات العسكرية. وكل متابع للتطورات المرتبطة باستكمال المعركة لاحظ تسارعاً في الإجراءات العسكرية الميدانية.

السيد حسن نصر الله الذي أكد المعطيات عن أن تفاوضاً يتم في الأراضي السورية مع المسلحين، الذين طلبوا الانتقال إلى دير الزور(…)، دعا الحكومة اللبنانية إلى أن تتوجه علانية بطلب التفاوض إلى الحكومة السورية، لكشف مصير العسكريين المخطوفين، فيما بدا إصراراً على وضع هذه المسألة الحيوية لبنانياً في يد النظام السوري، وحملت الدعوة المستغربة من جملة ما حملته، كل عناصر التلاعب بمشاعر وعواطف أهالي العسكريين، وبالتالي بمشاعر كل اللبنانيين، بل الإصرار على توظيف قضية بهذه الحساسية، والدقة في خدمة النظام السوري.

في المعطيات، وفي البلد أكثر من تسريبات للأخبار ما يفيد، بأن «داعش» تعتقل في البادية السورية، أحد ضباط «الحرس الثوري» الإيراني، وأكثر من عنصر من «حزب الله»، وأن التفاوض بشأنهم متواصل، ورغم الإعلان أن قيادة «داعش»» المركزية لا يهمها مصير هؤلاء الدواعش، يجري الضغط لاستدراج الحكم والجيش لعملية تفاوض، أهميتها أنها ستكون منسقة ومتكاملة مع الحكومة السورية وبرعايتها كما في الأيام السالفة. هذا النهج، كيفما نظرنا إليه، من شأنه إلحاق لبنان، لأن التطبيع مع نظام بشار الأسد دونه تبعات سلبية على الداخل اللبناني، وكذلك بالنسبة للشعب السوري الذي باسم «التجانس» تعرّض لأبشع إرهاب وتنكيل. هذه الدعوة شكلت مرحلة متقدمة من الضغوط المتتالية تحت عنوان ضرورة «التنسيق» في المواجهة، ثم محاصرة الحكومة بطلب تغطية بعض وزراء «الممانعة» الذين زاروا سوريا، ولا يخفى أن وراء كل أشكال الضغوط هذه انزعاجاً حقيقياً من الدور الكبير للجيش اللبناني في الميدان، وإصراراً على حرف الأنظار عن الانتصارات الحقيقية التي تحققت.

هناك قناعة لبنانية راسخة، مفادها أن كل الروايات عن ضعف الجيش لم يعد لها أي قيمة، بعدما ظهر زيفها، والتمسك بات مضاعفاً بدوره لفرض سيادة كاملة غير منقوصة من خلال وحدانية السلاح وحق الأمرة، وكل ما كان يُسرد من حِرصٍ مزعوم عن خوف على الجيش من الخسارة، تبين أن الخوف الحقيقي لبعضهم هو من انتصاره تماماً كما يجري هذه الأيام، وبالمقابل تراجعت كثيراً كل المرويات المرتبطة بالسلاح الفئوي الذي شئنا أم أبينا ارتبط به الكثير من حالات التشبيح وتغطية الموبقات.

في معركة طرد «داعش» من الحدود اللبنانية يتم تحرير الأرض، واقتلاع الإرهاب، وتتعزز الوحدة بين الجيش وحاضنته الشعبية، كما تُحاصَر وتنتفي كل الذرائع التي سيقت تبريراً لأن يكون لكل طرفٍ طائفي ميليشيا خاصة به، ومعروف أن هذا النهج ما كان ليتم التعبير عنه إلا من خلال استضعاف الجيش والتشكيك بقدراته.

ما من مبالغة اليوم بالقول إن «فجر الجرود» محطة تتجاوز الجانب العسكري الصرف، هذا الاستحقاق الذي فرض نفسه برهن استحالة الانضواء تحت راية أي معسكر لا يجمع عليه اللبنانيون، وفهم القاصي والداني، خصوصاً من أهل الحكم والقرار، أن ما خطط له في الغرف المغلقة لا يمر بغفلة عن الشعب اللبناني الذي يعرف تماماً أين مصلحته ومصلحة بلده، وهو يستوعب تماماً ما يعني النأي بالنفس الحقيقي وغير الملتبس، واللبنانيون يقدّرون أهمية ألا يصبح بلدهم بمواجهة مع المجتمعين الدولي والعربي.

لقد وضعت «فجر الجرود» أمام الناس تحدياً من نوع آخر: اللبنانيون الذين انتفضوا في الرابع عشر من آذار 2005، مطالبين بدولة سيدة عادلة تطبق الدستور، ولا تُنفّذ فيها القوانين بطريقة استنسابية، هم اليوم أمام تحدي مواجهة الزيف السائد والعنجهية والغرور، ومواجهة الفساد المستشري وتبعية بعض الجهات للخارج. وما يدخل الطمأنينة إلى النفوس، هو أن يطبق القانون على الجميع دون استثناء، وأول شرط لتحقيق ذلك، أن يكون السلاح بيد القوى الأمنية الشرعية، وقرار استعماله كما قرار الحرب والسلم، يكون حصرياً بيد الدولة اللبنانية، وأن يحترم الدستور والمصالح الوطنية فلا تتحول بأي حال من الأحوال إلى وجهة نظر.