فجأة.. وبلا مقدمات، ولا سابق إنذار، اقتحم ملف ترسيم الحدود مع العدو الإسرائيلي الساحة الداخلية، وأصبح بين ليلة وضحاها، الشغل الشاغل للبنانيين، ومحور الخلافات والصراعات المزمنة بين السياسيين!
ثمة إشكالات وملابسات أحاطت بالخطوة المفاجئة التي أعلنها رئيس مجلس النواب وأحد قطبي الثنائي الشيعي السياسي المحنك نبيه بري، كاشفاً عن اتفاق حول الإطار التفاوضي لترسيم الحدود البحرية والبرية الجنوبية، بعد سنوات طويلة من الأخذ والرد مع الوسيط الأميركي حول المبادئ والمعايير الواجب إتباعها قبل الولوج إلى قاعة التفاوض.
كالعادة، انقسم اللبنانيون حول هذه الخطوة إلى فريقين بين مؤيد للشكل والمضمون، وآخر متحفظ على الشكل وبعض المضمون.
المتحمسون، كانوا حتى الأمس القريب، يرفعون راية المقاومة والممانعة، ويضعون «شروط الموسكوب» على أية محاولة لحل مشاكل الحدود الجنوبية عن طريق التفاوض. وذلك تحت طائلة اللجوء إلى القوة النارية لحماية الحقوق اللبنانية في حقول النفط والغاز البحرية.
ولا يرى هذا الفريق غضاضة في تولي السلطة التشريعية مهمة التعاطي وإيصال هذا الملف إلى قاعة المفاوضات، من دون المرور بالسلطة التنفيذية، ومن دون الحصول على موافقة مجلس الوزراء مجتمعاً على هذا الإطار الذي سيُعتمد في التفاوض مع العدو الإسرائيلي، ويترتب على نتائجه مصير الثروة الوطنية من الذهب الأسود الموجودة في البلوكين ٨ و٩ في طرف الحدود البحرية، حيث بدأت المضخات الإسرائيلية بسحب ما يمكن الاستيلاء عليه من كميات النفط والغاز من المنطقة المتنازع عليها.
ويعتبر هذا الفريق أيضاً أن الإعلان عن هذا الإطار في هذا الوقت بالذات، بمثابة «ضربة معلم»، لأنه يقطع الطريق على مزيد من العقوبات ضد لبنان، وحزب الله والمتهمين بالتعاون معه خاصة، ويُساعد في الوقت نفسه على تسريع خطوات الاستفادة من عمليات التنقيب والتسويق للإنتاج اللبناني، بعد تأخير دام سنوات طويلة، استغلتها الدول المجاورة في الترويج لإنتاجها، وتأسيس نادي الغاز الإقليمي للتعاون في إعداد وتسويق هذه المادة الاستراتيجية، والتي تدور حولها الحروب المشتعلة في المنطقة، وصولاً إلى الحرب المحتدمة حالياً بين أذربيجان وأرمينيا.
وليس ثمة حرج، بالنسبة لهذا الفريق، في إسقاط شعارات المرحلة الحالية، واعتبارها أصبحت من الماضي، إزاء ما يمكن أن يحصل عليه لبنان من فوائد سياسية ومالية، قد تُشكل منافذ للخروج من أزمته المالية المتفاقمة، وتنشله من مهاوي الإفلاس، وبالتالي يُسجل للثنائي الشيعي سبق الإنقاذ، الذي يمكن توظيفه في تحسين مواقعه في المعادلة الداخلية، على خلفية المداولات الناشطة حول الذهاب إلى «عقد سياسي جديد»، ألمح له الرئيس الفرنسي في زيارته الأولى لبيروت!
أما الفريق المتحفظ، فينطلق من نصوص دستورية تحصر مثل هذه المهمات بالسلطة التنفيذية، وبرئيس الجمهورية الذي أناطت به المادة ٥٢ من الدستور مهمة التفاوض وعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية، على أن تُصبح نافذة بعد التصويت عليها في مجلس النواب.
ويشير هذا الفريق إلى ثغرات وردت في نص الإطار التفاوضي، حيث تضمن إدراج الحدود البرية على جدول المفاوضات المرتقبة، في حين أن اتفاقية الهدنة كرست الحدود الدولية المعترف بها في الأمم المتحدة منذ عام ١٩٣٦، والتي تم تحديدها بين الجانبين الفرنسي والإنكليزي عام ١٩٢٢، بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية.
ويحذر هذا الفريق من مخاطر تحديد الخط الأزرق، الذي تم ترسيمه لخط وقف النار بعد حرب تموز ٢٠٠٦، كمنطلق للمفاوضات، لأنه يفسح المجال أمام العدو الإسرائيلي لتعديل خطوط الحدود البرية وقضم مساحات من الأراضي اللبنانية، تكون مبرراً لمطالبته بتعديل الحدود البحرية وفق خط «هوف»، الوسيط الأميركي الذي رسم ما يُعرف بالخط «B2», الذي يضم حوالى ثلث المنطقة البحرية المتنازع عليها إلى الطرف الإسرائيلي!
ويُذكّر أصحاب هذا الرأي بأن الحدود البحرية تُشكل عادة امتداداً للحدود البرية، وأي تهاون في تعديل الثانية يسحب نفسه على الأولى.
أما على المستوى السياسي، فلا يخفي المتحفظون قلقهم من ذهاب الثنائي الى أبعد من المسألة الحدودية في تعزيز قبضتهم على المعادلة الداخلية، واستعجال خطوات الذهاب إلى نظام سياسي مستجد، يطيح بالتوازنات التي أرسى قواعدها اتفاق الطائف.
ولكن لا يخفي هذا الفريق رهانه على هذه الخطوة في اعتبارها مدخلاً وطنياً وشرعياً، لفقدان حزب الله مبرر احتفاظه بسلاحه بحجة الدفاع عن حقوق لبنان في ثروته النفطية البحرية.
ماذا عن العوامل الخارجية التي أحاطت بالإفراج عن هذا الملف المعطل منذ فترة طويلة؟
المتحفظون لا يستبعدون وجود قطبة مخفية إيرانية أميركية نسجتها المفاوضات الدائرة بين الجانبين في سلطنة عُمان لتسوية نزاعاتهما في الإقليم، حيث كان الرئيس الأميركي قد أعلن قبل أسابيع عن عزمه توقيع إتفاق جديد مع إيران بعد الانتخابات الرئاسية.
فهل دفعت طهران «عربون» التهدئة مع واشنطن من حساب ترسيم الحدود البحرية اللبنانية؟
وهل تكون هذه الخطوة بداية عهد استقرار طالما افتقده لبنان، أم ستعيد عقارب الساعة إلى الوراء وتؤدي إلى تفجير التناقضات الداخلية؟
وهل تمهّد مفاوضات الترسيم لفتح طريق التطبيع لاحقاً؟