بات مؤكّداً أن لا خروج من النفق المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، وأنّ البلد مقبل على انهيارات يصعب التقدير في أي قعر سترسو. ويسود اعتقاد بأنّ البلد مقبل في النهاية على صدمات ستقوده إلى تَحوُّلات جذرية. وفي العادة، هذه التحوُّلات لا تتحقَّق إلّا «على الحامي». ولذلك، يصبح الانهيار الحالي خطِراً لا على الدولة فحسب، بل على الكيان أيضاً.
يجزم الخبراء أن لا حدود للانهيار اللبناني. وإذا كان البنك الدولي قد صنَّف هذا الانهيار، العام الفائت، بأنّه بين الثلاثة الأشدّ شراسة في العالم، منذ 1850، فالأرجح أنّ تقاريره الآتية ستحسم الاتجاه فيكون الانهيار اللبناني هو الأشرس على الإطلاق.
ولكن، للصدفة، هذا التاريخ (1850) مثير جداً للرعب في لبنان، لأنّه يشكّل استحضاراً لمرحلة فيها الكثير من عناصر الشبه مع المرحلة الحاضرة:
آنذاك، تداخلت عناصر النزاع في «الرجل المريض»، أي السلطنة العثمانية، مع طموحات القوى الدولية (روسيا وإنكلترا وفرنسا خصوصاً)، واستثمر الجميع ثغرات المجتمع اللبناني الصغير لتحقيق المآرب في السيطرة والتسابق على النفوذ. وبدءاً من 1840، وبعد عزل الأمير بشير الثاني وبلوغ الحكم الشهابي أضعف حلقاته ببشير الثالث «أبو طحين»، اتّجهت السلطنة إلى وضع يدها على لبنان، ليُحكَم مباشرة من اسطنبول.
وسط هذا المناخ، بدأت القلاقل الاجتماعية والطائفية في الجبل، حيث كان يتحكّم الإقطاع المسيحي والدرزي بالموارد. وفي العام 1958، انفجرت حركة الفلاّحين مع طانيوس شاهين، فاحتمى الإقطاع ببعض الإكليروس والسلطنة. ودافع عن نفسه بشقّ صفوف الفلاحين، ورمى كرة النار خارج ملعبه.
وهكذا، فجأةً، تحوَّل النزاع الاجتماعي فتنةً طائفية مارونية- درزية في 1860، انتهت بعد عام بنظام جديد للبنان هو المتصرفية، وكان يرعاه «القناصل» الذين تولّوا إدارة الجبل عملياً حتى انتهاء الحكم العثماني باندلاع الحرب العالمية الأولى.
هذه الوقائع التاريخية، يبدو فيها الكثير من وجوه الشبه مع الوقائع الحالية. ففي سياق النزاع الإقليمي- الدولي الصعب في لبنان، وعلى لبنان، جاءت انتفاضة 17 تشرين لتعلن الانهيار المستتر، وتلاها انفجار المرفأ، وبعد ذلك عمَّ الجوع بمعناه الحرفي، وهو يتنامى. ولذلك، سيكون هناك مكان لتنفيس هذا الاحتقان حتماً. والسؤال: كيف؟
القمع ينتظر أي انتفاضة «وطنية» محتملة على غرار 17 تشرين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وسواء بالترهيب أو الترغيب لشقّ صفوف المنتفضين. وهنا يصبح الوضع أخطر مما يُتوقّع، لأنّ الفتنة يمكن أن تولد من هذا المكان، خصوصاً إذا كان زعماء الطوائف سيجدون أنّ حماية رؤوسهم ومراكزهم في السلطة لها الأولوية على أي اعتبار آخر.
عند هذه النقطة الحسّاسة تتحوَّل الانتفاضة الاجتماعية فتنةً أهلية، قصداً أو بغير قصد. وقد يسأل بعض المتابعين: كيف تندلع الفتنة إذا لم يكن هناك سلاح في أيدي الطوائف، وفي عبارة أكثر دقّة، إذا لم يكن هناك سلاح إلّا في يد فئة في طائفة واحدة؟
ويضيف هؤلاء: مِن حسن الحظّ أنّ زعماء الطوائف في لبنان لا يملكون السلاح، لأنّ المرحلة المقبلة مثالية لتفجير الصراعات بين هذه الطوائف وفي داخل كل منها. طبعاً، هم يستثنون «حزب الله» من بين هؤلاء، ويقولون: مع مَن سيتقاتل «الحزب» إذا كان وحده يمتلك السلاح؟
فمن الممكن أن يكتفي «الحزب» بمجرّد امتلاكه للسلاح، فلا يضطر إلى استخدامه. وأما الآخرون فليس لهم إلّا 3 خيارات:
1- أن يستسلموا للواقع، كما يحصل اليوم.
2- أن يحصلوا على السلاح من الداخل أو الخارج.
3- أن يستعينوا بقوى خارجية توفِّر لهم التوازن مع السلاح.
الخياران الأخيران دونهما عواقب على الاستقرار يتعذّر حصرها. لكن الخيار الأول لا يمكن ضمان عواقبه أيضاً.
وعلى أبواب مرحلةٍ مفصلية، بسبب الانتخابات النيابية والرئاسية والبلدية المفترض أن تُجرى، ترتفع سخونة التجاذب داخل الطوائف وفي ما بينها. والشيعة متماسكون ولا أحد يمسّ بـ»استقلاليتهم الطائفية»، فيما المسيحيون والسنَّة يتعرضون لـ»انتهاكات»، ويحاول الدروز حماية أنفسهم بـ»المسايرة».
ولا شيء أكثر إثارة من سجال الرئيس سعد الحريري مع الدكتور سمير جعجع على خلفية «اتهامه» باللعب داخل ملعب الطائفة السنّية، فيما البلد كلّه، بطوائفه المنتفضة لـ»استقلالية قرارها»، محدّدة خياراته. ويتبادل السياسيون السُنَّة شكوى من تقديم «حزب الله» خدماتٍ داخل البيئات الشعبية السنّية في بعض المناطق، ويعبّرون عن الخشية من تأثير ذلك على خيارات الناس. لكن هذا الكلام لا يقوله هؤلاء علناً.
في اختصار، المخاوف من عواقب الاحتكاكات بين الطوائف في محلّها، ولو كان السلاح محصوراً بجهة واحدة. وللتذكير، في العام 1975، اندلعت الحرب ولم يكن هناك إلّا طرف واحد يمتلك السلاح أيضاً هو الفلسطينيون.
وسيكون إطفاء فتيل التوتر الاجتماعي، بالإصلاح الحقيقي، وبتغيير منظومة الفساد حصراً، هو السبيل الأوحد ليس لتجنّب انهيار الدولة فحسب، بل لاهتزاز الكيان أيضاً على رمال الشرق الأوسط.