IMLebanon

المادتان 52 و53 «تشمطان أُذن» الدستور

 

 

المألوف أن للجرار أُذناً واحدة أو اثنتين، تدار من الأولى أو من إحدى الاثنتين. أما الدستور اللبناني، فجرّة بآذان تحار من أيّ منها تُدار. كل مكان فيها له أُذن كي يُستدار في هذا التفسير أو ذاك. يكاد لا يمر عليه يوم لا يشمط أحد له أُذناً

 

مصادفة أو مفارقة هو دوران سجال من حول المادتين الجارتين 52 و53 من الدستور، في توقيت متزامن في مسألتين متباعدتين تماماً: أولى ترتبط بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وثانية بالدعوة إلى الاستشارات النيابية الملزمة والآلية التالية المكمّلة لها وهي مشاورات التأليف. في كلتا المادتين ـــ وهذه ليست المرة الأولى ـــ نشأ سجال دستوري من حول الصلاحية المنوطة برئيس الجمهورية من خلالهما. عندما أبطأ الرئيس ميشال عون في توجيه الدعوة إلى الاستشارات الملزمة نهاية عام 2019، عملاً بالمادة 53، انبرى الرؤساء السابقون للحكومة وسواهم في الطائفة معترضين، وعدّوه يخالف الدستور، كما لو أن الدعوة وقبلها المدة التي يوجهها إبانها ملزمتان. الواقع أن الأولى ملزمة خلافاً للثانية. استُعيد السجال نفسه عندما أرجأ الدعوة إلى استشارات ملزمة على أثر استقالة حكومة الرئيس حسان دياب في 10 آب، ثم قبل يومين عندما أرجأ دعوة مماثلة كان وجّهها لأيام خلت. ترافقت هذه المآخذ مع بيان لدياب سجّل فيه على رئيس الجمهورية تجاهله إياه كرئيس للحكومة في المفاوضات مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية تبعاً للمادة 52.

 

ليست هذه المرة الأولى تُثار إشكالات دستورية من حول هاتين المادتين. على أبواب كل تكليف يُثار، بطريقة أو بأخرى، النطاق الممنوح دستورياً لرئيس الجمهورية كي يمارس صلاحية الدعوة والمدة الواجبة وإيداع أصوات النواب لديه. أولها عام 1998 ولن يكون آخرها ما يدور الآن. ذلك ما يصحّ أيضاً على المادة 52 التي رافقتها ـــ بقليل من الضجيجين الإعلامي والسياسي ـــ اجتهادات شتى في مواضيع عقد اتفاقات بين لبنان وإحدى الدول، فيستعان بمجلس شورى الدولة مرة وبهيئة التشريع والقضايا في وزارة العدل مرة أخرى، كما بآراء خبراء دستوريين.

سواء نُظِر إلى تأجيل رئيس الجمهورية الدعوة إلى الاستشارات الملزمة على أنه توسّع في تفسير الصلاحية الحصرية المطلقة المنوطة به، أو على أنه فعل سياسي متعمّد يتوخّى تأخير الاستشارات كي تتزامن مع التفاهم على تأليف الحكومة، فإن ذلك ليس سوى جزء لا يتجزأ من مشكلة تسبّب فيها كل رئيس مكلّف بعد اتفاق الدوحة عام 2008، عندما بدأ يتصرّف، خلافاً لما كان يجري في مرحلة ما بين عامَي 1990 و2005 في الحقبة السورية، على أن التكليف حق مكتسب له وحده. ما إن يحصل عليه، لا يسع مجلس النواب الذي يمنحه إياه، ولا أي مرجعية دستورية أخرى انتزاعه منه، تحت التهويل أنه يتعرّض بذلك إلى الطائفة ويستهدفها، وليس جراء فشل ـــ أو إفشال حتى ـــ الرئيس المكلف في تأليف الحكومة.

حينذاك كانت اللعبة بشقّها الدستوري تبدو سهلة، بأن يدعو رئيس الجمهورية إلى استشارات ملزمة لتسمية الرئيس المكلف الذي يُطبق على هذا الاختصاص، ولا يُفرج عنه إلا بشروطه أو بإنهاك الآخرين أو بأن يُنهك نفسه بنفسه أو أن يقع تدخّل إقليمي أو دولي يفرض عليه إبصار الحكومة النور. في جانب من هذه المشكلة أن الرئيس المكلف يحتجز التكليف بين يديه، ثم يجد نفسه في نهاية اللعبة أمام مشكلة أكثر تعقيداً، إذا واجه رئيساً صلباً أو عنيداً لا يوقّع مراسيم الحكومة إلا بشروطه. ذلك ما فسّر استغراق تأليف الحكومات مدداً غير طبيعية وغير مقبولة منذ اتفاق الدوحة. بذريعة التأليف المتعذّر تتمسّك الشخصية المعنية بالتكليف.

ما فعله رئيس الجمهورية مرتين على التوالي بدلالة سياسية، ذات أقدام دستورية متينة، أنه أوقف لعبة الرئيس المكلف في منتصف الطريق: الاتفاق على التأليف يسبق التكليف، لئلا يتحكّم التكليف بالتأليف. شأن الرئيس المكلف المتذرّع بأن لا مهلة مقيِّدة ترغمه على التأليف السريع، استعان رئيس الجمهورية بالسلاح نفسه: ما دامت الدعوة ملزمة من غير مهلة مقيِّدة لتوجيهها، فلتُفتح اللعبة السياسية على مداها ولتُقلب الأدوار. على نحو كهذا، بفيتو سلبي، قابل رئيس الجمهورية الفيتو السلبي للرئيس المكلف، كي يتوازن اللهو ليس بالصلاحيات فحسب، بل أيضاً بأُذن جرّة الدستور، مع أن ليس لكلا رئيس الجمهورية والرئيس المكلف أن يفعل الأول هذا والآخر ذاك.

أما المادة 52، فليست أقل عبئاً، وخصوصاً أن الموقف السياسي يقترن بالتفسير السياسي، فيختلط أحدهما في الآخر. اشتكى رئيس حكومة تصريف الأعمال من تجاهل رئيس الجمهورية له في معرض تأليفه الوفد اللبناني إلى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، واتهمه مباشرة بمخالفة واضحة صريحة للدستور. كلا موقفي عون ودياب صدرا في 12 تشرين الأول، قبل 48 ساعة من مباشرة التفاوض في الناقورة. في اليوم التالي أصدرت رئاسة الجمهورية بياناً تمسّكت فيه بصواب اختصاصها تأليف الوفد الذي لا يعني التفاوض والإبرام كي يتداخل دورا رئيسَي الجمهورية والحكومة. كلا الرجلين استندا إلى المادة 52 على أن ما يجري معوَّل عليه دستورياً من خلالها، وأن ترسيم الحدود يخضع لتطبيق هذه المادة. خلافاً لوجهة نظر الثنائي الشيعي الذي لا يريد إبصار المفاوضات على أنها معاهدة دولية خشية التطبيع، ثبّت الرئيسان الاعتقاد بأنهما في ظل المادة 52، ما أعطى حجة دياب ذريعة أن احتجاجه صائب.

 

المادة 53 باتت لعبة الفيتوات السلبية المتبادلة

 

 

لأنها ليست المرة الأولى يُثار موضوع مشابه يرتبط باتفاقات، كثرت الاجتهادات والتفسيرات بإزاء صواب إخضاع الاتفاقات تلك إلى المادة 52 مع كل ما تشترط عليه لجهة ثنائية رئيسَي الجمهورية والحكومة في التفاوض والإبرام، ومن ثم موافقة مجلس الوزراء على المعاهدة، ومن ثم عرضها على مجلس النواب أو عدم عرضها تبعاً لقيود محددة. يحمل ذلك مراجع حقوقية رفيعة على الاعتقاد، في خضم هذا السجال، أن ليس لترسيم الحدود أي صلة بالمادة 52، ولا يسري تطبيقها عليها، ولا تحتم بالضرورة موافقة مجلس الوزراء ولا مجلس النواب عليها.

تستند المراجع الحقوقية الرفيعة إلى اجتهاد لمجلس شورى الدولة رقم 30/97 ـ 98 صادر في 3 كانون الأول 1997، عن هيئة ترأّسها القاضي جوزف شاوول وضمّت القاضيين اندره صادر وسهيل بوجي، في معرض إبداء رأي في مشروع اتفاق بين لبنان وكندا.

في حيثيات رأيه، حدّد مجلس شورى الدولة قواعد الفصل بين المعاهدة كي تسري عليها المادة 25 وبين الاتفاق الذي يصير إلى إقراره في معزل عنها، بالاستناد إلى «اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات» في 23 أيار 1969، بتعيينها ثلاثة شروط للمعاهدة: أن تكون اتفاقاً بين دول، ترمي إلى إنتاج مفعول قانوني، توضع في إطار القانون الدولي.

تبعاً لهذا القياس، يخضع ترسيم الحدود البحرية إلى الشرطين، الأول (انعقاد بين دولتين) والثالث (وضعه في القانون الدولي عبر تسجيله لدى الأمم المتحدة)، بيد أنه يفتقر إلى الشرط الثاني الإلزامي والجوهري كي يوصف بمعاهدة (إنتاجه مفعولاً قانونياً ذات طبيعة إرغامية).

في ما أورده مجلس شورى الدولة: «بما أن ما يؤكد عدم توافر الشرط الثاني من شروط قيام المعاهدة الدولية بمفهوم القانون الدولي، المتعلق بوجود مفاعيل قانونية ملزمة لطرفَي الاتفاق، فإن مشروع الاتفاق لا يتضمن أية موجبات متبادلة تلزم طرفَيه باحترامها أو التقيد بها، كما لا ينص على أية تدابير أو عقوبات يتوجّب اتخاذها أو تحميلها إلى الطرف الذي يخلّ بما تفرضه المعاهدة. فقدان الإلزام القانوني والعقوبات المترتبة على عدم احترام هذا الالتزام، وعدم وجود أي مراجعة قضائية يمكن اللجوء إليها، ينفيان عن الاتفاق صفة المعاهدة الدولية بسبب فقدان أحد العناصر الأساسية في تعريفها».

لأن الترسيم ليس معاهدة ولا هو في صلب المادة 52، هل يقتضي أن لا يُعلِم رئيس الجمهورية رئيس الحكومة بالوفد المفاوض؟ وهل لعدم إعلامه بأعضاء الوفد لأنه اتفاق فحسب انتقاص من صلاحيات دستورية لرئيس مجلس وزراء ليس مَن ألّف حكومته؟ وهل لتكليف قبل تأليف أو تأليف قبل تكليف جدوى ما دام الرئيسان ليسا هما اللذين يؤلفان؟

أجوبة غير ذات معنى ما دام الأفرقاء جميعاً يمرون من حدّ الدستور ولا يمشون وراءه.