المحاولات الدولية لوقف الاقتتال اللبناني الداخلي لم تتوقّف منذ اندلاع الحرب اللبنانية، ولكنها لم تُثمر بسبب عدم توافر المومنتم المناسب لوقفها، إلى ان أعلن العماد ميشال عون «حرب التحرير»، فتقاطعت المساعي الداخلية والخارجية على ضرورة إنهاء هذه الحرب، فكان اتفاق الطائف.
حصل ما حصل من انقلاب على وثيقة الوفاق الوطني التي لم تُطبّق في شقها السيادي إن المتصل ببقاء الجيش السوري في لبنان، او المتعلِّق بعدم تسليم «حزب الله» لسلاحه. وعدم تطبيق الشق السيادي حال دون قيام دولة وقضاء وقانون، خصوصاً انّ القرار الاستراتيجي كان في دمشق وليس داخل المؤسسات اللبنانية. ولكن، مجموعة الأحداث التي توالت منذ خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان وموت الرئيس حافظ الأسد و11 أيلول وإسقاط نظامي صدام وطالبان وصدور القرار 1559 واغتيال الشهيد رفيق الحريري والمصحوبة بحيوية داخلية استثنائية، أدّت إلى إخراج الجيش السوري وطوت صفحة لم تكن في التوقعات والحسبان.
وبدلاً من ان يشكّل رفع يدّ النظام السوري عن لبنان فرصة لإعادة قرار الدولة إلى داخل المؤسسات الدستورية، انتقل هذا القرار من «قصر المهاجرين» إلى حارة حريك، فدخل البلد في انقسام جديد عنوانه سلاح «حزب الله»، وفصول من مواجهة تنوّعت بين الاغتيال والتعطيل والفراغ واستخدام السلاح، وصولاً إلى الانهيار وانتفاضة الناس وعزلة لبنان الخارجية والخليجية تحديداً، وكل المحاولات التي جرت لحلّ إشكالية السلاح اصطدمت بحائط مسدود.
ويذكِّر الانقسام حول السلاح وجولات الحوار الفاشلة التي لم تؤدِ إلى نتيجة، بجولات الحوار في الحرب، والسعي إلى إنهائها، والتي لم تفضِ إلى نتيجة سوى بعد ان انهارت كل مقومات الداخل وتقاطعت مع مصلحة الخارج، بإنهاء حالة الحرب، خشية من ان تنعكس على قطار السلام العربي-الإسرائيلي الذي كان في طور التحضير لانطلاقه، ما يعني انّه لولا حرب العماد عون التحريرية التي استدعت التدخُّل الخارجي لوقفها لكانت بقيت خطوط التماس لغاية اليوم ربما، ولكن هناك دائماً مومنتم داخلياً وآخر خارجياً، وفي اللحظة التي يتقاطعان فيها لا بدّ من توليدهما لتُحوّل باتجاه من الاتجاهات.
وما يجدر التأكيد عليه، انّ الأزمة اللبنانية لم تكن يوماً داخلية حصراً، إنما كانت تجمع دوماً بين البعدين الداخلي والخارجي، وغير صحيح انّها حروب الآخرين على الأرض اللبنانية، في محاولة لتبرئة اللبنانيين من انقساماتهم العمودية حول خيارات وطنية كبرى بدأت منذ قيام الجمهورية الأولى وتراجعت حدّتها حتى حرب العام 1967 ودخول العامل الفلسطيني بقوة إلى المعادلة اللبنانية، الأمر الذي أسقط الحياد وحوّل لبنان إلى ساحة صراع إقليمية.
والخلاف في زمن الحرب كان من طبقتين: الطبقة الأولى والأساسية تتعلّق بالكيان اللبناني ونهائيته في ظلّ المخاوف من إلحاقه وضمه، والطبقة الثانية ترتبط بإصلاحات ضرورية تأكيدًا على الشراكة السياسية ومنعاً لأي استئثار كان «مبرّره» الخوف من استخدام السلطة لتغيير هوية لبنان ودوره. ولكن في الوقت الذي تمّ فيه الاتفاق في الطائف على الطبقتين تمهيداً لقيام جمهورية ثانية تذكِّر بالازدهار الذي عرفته الجمهورية الأولى، تمّ الانقلاب على الطائف والحرب الساخنة تحوّلت الى حرب باردة.
والخلاف نفسه في زمن الحرب انتقل إلى زمن الوجود السوري في لبنان مع اختلاف طبيعته من عسكرية إلى سياسية، وكان خلافاً لبنانياً- لبنانياً بالتوازي مع القرار السوري بوضع اليد على لبنان، حيث انّ هناك فئة من اللبنانيين كانت تعتبر انّ الوجود السوري في لبنان هو وجود طبيعي وداخلي والجيش السوري موجود في بلده الثاني لبنان.
ولم يخرج الجيش السوري سوى بعد ان توسعّت معارضة هذا الوجود من مسيحية إلى إسلامية وترافقت مع حيوية داخلية استثنائية وتقاطعت مع أحداث خارجية غير مسبوقة بكثافتها، وكل ذلك حصل على وقع انقسام داخلي حتى العظم بين من يريد إخراج الجيش السوري ومن يريد استمراره في لبنان.
والمشهد الانقسامي الداخلي نفسه الذي رافق مرحلة الحرب ومن ثمّ مرحلة وضع اليد السورية على لبنان، تواصل مع المرحلة الثالثة التي البلد بصددها منذ العام 2005، وعنوانها سلاح «حزب الله»، بين من يريد نزع هذا السلاح تمهيداً لقيام دولة حقيقية لا صورية، لأنّه يستحيل قيام دولة في ظلّ سلاحين، وبين من يريد إبقاء هذا السلاح لإبقاء لبنان ساحة نفوذ متقدِّمة لطهران.
وعلى رغم المراحل الخطيرة التي قطعها البلد في المرحلة الانقسامية حول سلاح «حزب الله»، لم تبرز مؤشرات داخلية ولا خارجية إلى ضرورة إنهاء النزاع اللبناني حول هذا السلاح، على غرار ما حصل في محطة إنهاء النزاع العسكري ومن ثم محطة إخراج الجيش السوري من لبنان، ولكن بين الانهيار الداخلي الذي وضع اللبنانيين أمام الحائط المسدود، وبين دور الحزب في الحروب السورية والعراقية واليمنية وضربه استقرار دول المنطقة، وصلت الدول الخليجية إلى قناعة انّ هذا الوضع الذي تغاضت عنه طويلاً لا يمكن ان يستمر، فجمدّت علاقاتها مع لبنان كخطوة أولى، ورفعت ورقة سياسية تستند فيها إلى الدستور واتفاق الطائف ومقررات الجامعة العربية وقرارات الشرعية الدولية، وتتضمن مطالب اللبنانيين التاريخية كخطوة ثانية ومتقدّمة، وهي مدركة سلفاً بعجز السلطة اللبنانية عن تطبيقها، ولكن بما انّها تدرك ذلك لماذا أقدمت على رفع هذه المطالب من الحيز الداخلي إلى تبنّيها خليجياً كمقدمة لتدويل القضية اللبنانية؟
ومعلوم انّ الحوار اللبناني-اللبناني الذي لم ينتج حلاً لإنهاء الحرب اللبنانية سوى بعد تقاطع اللحظة الداخلية والخارجية، ومعلوم أيضاً انّ الحوار اللبناني-اللبناني الذي لم ينتج حلاً لإنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان سوى بعد تقاطع اللحظة الداخلية والخارجية، فإنّ وضع حدّ للتدخّل الإيراني في لبنان وتسليم «حزب الله» لسلاحه لن يحصل سوى بعد تقاطع اللحظة الداخلية والخارجية. فهل تشكّل الانتخابات النيابية هذه اللحظة الداخلية من خلال الاقتراع الكثيف ضدّ المشروع السياسي الذي خطف الدولة وأفقر الناس وبدّل في نمط عيشهم؟ وهل تشكّل الورقة الخليجية التي سئمت من تحوّل لبنان إلى منصّة لاستهدافها هذه اللحظة الخارجية؟ وهل يولِّد تقاطعهما الحل اللبناني بإنهاء الانقسام حول السلاح وعودة الجميع إلى كنف الدولة؟ وهل يحصل هذا التطور على البارد أم الساخن؟ وهل إنهاء الانقسام حول السلاح يعني الثالثة ثابتة بعد مرحلتي الحرب والوجود السوري، وانّ لبنان سيعود إلى زمن الجمهورية والدولة والسلام والاستقرار والازدهار، أم انّ الانقسام هو في التكوين والنسيج اللبناني ودخول البلد في صراع جديد بعنوان جديد وانقسام عمودي هو مسألة حتمية؟
وإذا كان يستحيل الحصول على الإجابات الشافية والمطلوبة، ولكن الثابت والأكيد انّ لبنان على عتبة مرحلة من التحوّلات المفصلية، وهي شبيهة بمرحلة إنهاء الحرب وخروج الجيش السوري، فهل تكون سنة 2022 سنة التحوّلات على غرار عامي 1989 و2005؟