IMLebanon

ما الحلول الممكنة بانتظار قيام الدولة؟ (2)

 

في الحلقة الأولى تمّ استعراض 4 وقائع تحول دون قيام الدولة: “حزب الله” لن يسلِّم سلاحه، المجتمع الدولي عاجز، إيران تواصل استراتيجيتها التوسعية، المواجهة الداخلية سقفها ما دون السلاح. وانطلاقاً من هذه الوقائع كان السؤال عن الحلول المطلوبة بانتظار الحلّ النهائي؟

يجب الانطلاق من مبدأ أساس هو انّ الأزمة طويلة ولم يعد يكفي التعامل معها من خلال التمسُّك بالثوابت المعروفة المتعلِّقة بالطائف واحتكار الدولة وحدها للسلاح والقرارات الدولية والحياد وغيرها من المسائل، لأنّ ما لم يتحقّق على مدى 18 سنة بعد خروج الجيش السوري من لبنان قد لا يتحقّق بعد 18 سنة أخرى، وعامل الوقت خطير للغاية كونه بقدر ما تتواصل الأزمة بالحدّة الموجودة، بقدر ما يتم إفراغ لبنان وتغيير وقائعه الديموغرافية.

 

ويبدو انّ “حزب الله” أدركَ صعوبة نسف اتفاق الطائف واستبداله، واستدرك عدم مصلحته الدفع نحو مؤتمر تأسيسي في ظل ميزان قوى ليس لمصلحته، خصوصاً ان اي صيغة جديدة بحاجة لرعاية خارجية وبيئته الاستراتيجية مأزومة، حيث ان إيران في اشتباك مع كل العالم وفي أدق وضع داخلي وخارجي، والنظام السوري في وضع كارثي، فضلاً عن انّ ميزان القوى الداخلي ليس لمصلحته، ويستحيل على القوى المناهضة لسياسته الموافقة على تعديل الدستور بما يسمح بتشريع سلاحه، كما انّ الأزمة المالية فاقمت النقمة الشعبية ضده بعدما أيقنَت الناس، التي لم تكن قد حسمت خياراتها بعد، انّ المعبر للإصلاح المالي والاقتصادي وجود دولة، وبالتالي البيئة اللبنانية لن تكون متساهلة مع أي غَضّ نظر حول ازدواجية السلاح الذي يعطِّل الدولة ومؤسساتها.

 

وما تقدّم يفسِّر الكلام المكرّر لـ”حزب الله” انه ضد تعديل الدستور ومع اتفاق الطائف، والشيخ نعيم قاسم كان شديد الوضوح لهذه الجهة بقوله “حزب الله” ملتزم بالطائف وليس لديه مشروع أن يعدِّل في هذا الطائف، وإذا كان هناك جهة لديها مشاريع تعديل فلتقدِّم هذه المشاريع عبر المجلس النيابي من أجل أن يتم تعديل الدستور بالوسائل المعروفة بانعقاد جلسة مجلس النيابي بالثلثين. لدينا تعديل واحد نريده وهو جَعل سن الانتخابات ثمانية عشر عاماً، قدمناه سابقاً ولم يمر وسنقدمه في وقت مبكر إن شاء الله عندما تحين الفرصة. أما التعديلات الأخرى فلسنا ممن يسعون إليها لأننا نرى أنّ الأولى هو تطبيق ما لم يطبّق في الطائف، وضرورة احترام الدستور وقيام دولة المؤسسات”.

 

وما تقدّم يعني ان “حزب الله” قد انتقل بالموقف من رفض اتفاق الطائف عند إقراره في العام 1989، إلى المطالبة بمؤتمر تأسيسي والتراجع عنه وإبقاء نظرته للنظام حَمّالة أوجه، وصولاً إلى تأكيده العلني الالتزام بالطائف وأولويته تطبيقه لا تعديله وان ليس لديه مشاريع تعديل لهذا الاتفاق. ولكن ماذا يعني عملياً كلام الشيخ نعيم:

 

يعني أولاً ان “حزب الله” يريد ان يستنسخ التجربة البعثية بإلحاق لبنان بسوريا من دون المسّ بالنصوص الدستورية بسبب صعوبة تغيير النظام داخليا وخارجيا، أي حكم لبنان من حارة حريك على غرار إدارته من دمشق.

 

يعني ثانياً انّ الحزب يتجنّب المواجهة مع السعودية التي أكدت من خلال سفيرها الدكتور وليد البخاري رفضها المَس باتفاق الطائف، خصوصاً ان مواجهة من هذا النوع تؤدي إلى توتر سني-شيعي في لبنان، ولكن موقف الشيخ نعيم يمكن التعامل معه بأوجه مختلفة بدءاً من اعتباره مجرّد كلام عادي لا يحمل أية أبعاد، مروراً بوضعه في خانة ترييح السنّة بأنّ الحزب في غير وارد المَس بالطائف، أو توجيه رسالة للرئيس ميشال عون بعد الخلاف المُستحكم بين الطرفين بأنّ الأولوية في هذه المرحلة هي للسنّة، وانتهاءً باعتبارها رسالة إيرانية كون كلامه أتى بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان، وفي السياق ذاته تقريباً جاء كلام السيد حسن نصرالله عن المساعدات الخليجية إلى لبنان، فيما يُدرك ان سبب وقف هذه المساعدات دور الحزب ومواقفه.

 

ولا يجب استبعاد على هذا المستوى ان يكون “حزب الله” يريد التبريد مع المملكة في محاولة لإعادة العلاقة إلى ما كانت عليه قبل دخوله الحرب السورية، خصوصا في ظل معرفته استحالة فرملة الانهيار والخروج منه من دون مؤازرة خليجية، وتَيقّنه انّ بيروت لا تُحكم ضد الرياض.

 

ويعني ثالثاً ان استراتيجية “حزب الله” في لبنان تقوم على حدّين: حدّ التمسُّك بسلاحه كجزء أساس من محور الممانعة التوسّعي، وحدّ وضع اليد على المواقع الدستورية والمفاصل الأساسية للدولة والتي بواسطتها يحمي مشروعه الخاص في لبنان.

 

وانطلاقاً من التجربة أقله منذ العام 2005 فإنّ ازدواجية السلاح تعني المراوحة في دوامة الفشل وعدم الاستقرار وإبقاء الوضع بين حَدّي الحرب الباردة والحروب الساخنة، ومع غياب المؤشرات الداخلية والخارجية إلى إمكانية إنهاء هذه الازدواجية قريباً، ومع تحوّل الوقت إلى عامل قاتل وحاسم في الصراع يراهن عليه “حزب الله” لمزيد من تغيير الوقائع على الأرض التي تمكِّنه من تعزيز إمساكه بمفاصل السلطة، فإنّ هناك ثلاثة أسباب موجبة تستدعي التفكير جدياً بتغيير أسلوب المواجهة المعتمد منذ خروج الجيش السوري من لبنان:

 

السبب الموجب الأول غياب الأفق الدولي المساعد على تطبيق القرارات الدولية او الضغط على طهران لإنهاء ميليشياتها في المنطقة وتغيير دورها من عسكري -أمني إلى سياسي.

 

السبب الموجب الثاني استنفاد المواجهة معظم أغراضها والتثبُّت بأنها لن تخرج عن ربط النزاع تحت سقف سلاح الحزب ودوره.

 

السبب الموجب الثالث انّ المواجهة القائمة لم تعد تُزعج الحزب ونجح في التأقلم معها ويحاول مدّ الجسور مع السنة من خلال الكلام عن الطائف، فيما الانهيار الذي لا يمكن الخروج منه أصبح عامل تهديد وجوديّ للبنانيين، وهذا لا يعني طبعاً انّ الشريحة السنية السيادية الواسعة في وارِد التقاطع مع الحزب، ولكن هذا ما يحاول الأخير القيام به في محاولة لتحييدها.

 

وحيال ما تقدّم أصبح لِزاماً على القوى السيادية الخروج من المواجهة الكلاسيكية بعنوان دولة في مواجهة دويلة باتجاه تخيير “حزب الله” بين التزام جميع اللبنانيين بسقف الدولة التي تحتكر وحدها السلاح والطائف الذي لم يطبّق بشقه الأساس وهو السيادي الذي يشكل مدخلاً للإصلاح وقيام دولة المؤسسات، وبين رفض استمرار التعايش السياسي المتواصل منذ العام 2005، لأنّ المستفيد من هذا التعايش هو الحزب، فيما الإنقاذ مستحيل، والدولة ستبقى خاضعة لشروطه.

 

ومعلوم انّ “حزب الله” يريد ان تستمر الأوضاع على النحو السائد، والمخاوف السيادية السابقة من ان يدفع الحزب باتجاه تغيير النظام، ليست فقط لم تَعُد في محلها بعد اقتناع الحزب بأنّ إبقاء القديم على قدمه يخدم استراتيجيته بالحفاظ على دوره وسلاحه، إنما أصبح لزاماً على القوى السيادية تهديد الحزب بما كان يهدِّد به بتغيير النظام، خصوصاً انه يستفيد من هذا التعايش السياسي لخدمة مشروعه الذي يشكل الانفصال عنه مزيداً من العزلة لهذا المشروع وانهياره من الداخل في غياب مقومات استمراره الداخلية والخارجية.

 

فلا حلول في الأفق المحلي والخارجي للأزمة اللبنانية، والحلّ الوحيد في هذه المرحلة يكمن في رفع تأثير مشروع “حزب الله” على حياة اللبنانيين بانتظار الظروف المؤاتية لاستعادة السيادة على مساحة الـ10452، وهذه الوسيلة الوحيدة المُمكن تحقيقها في هذه المرحلة من أجل الحفاظ على لبنان بهويته وتعدديته وفرملة مشروع الحزب المتمدِّد ووَقفه عند حدود معينة، وخلاف ذلك فإنّ الوقت لمصلحة الحزب والمشروع السيادي سيتآكل تدريجاً، وكل الأولوية تبقى لتسيير حياة الناس وشؤونها بعيداً عن الصراعات السياسية الوجودية والكبرى.