IMLebanon

طباعة العملة اللبنانية من الألف الى الآخ…

 

قبل أن تغيب… تحية إلى عملتنا الوطنية

ننام ونحن نهجس بها ونستيقظ على صورتها، بيننا وبينها عشرة عمر لا يمكن أن يلغيها تعميم أهوج من مصرف لبنان، هي عملتنا اللبنانية التي وإن خاصمناها وأهملناها وتكبّرنا عليها لعقود، عدنا نفتش عليها ونحتضنها في القلوب قبل الجيوب، حين دقّ الفقر ابوابنا وسدت نوافذ البحبوحة في وجوهنا. لكنها تكبّرت واتّبعت المثل الفرنسي القائل أهرب منها فتتبعك، لاحقها فتهشل… عملتنا اليوم “هشلانة” وتكاد تكون فلتانة على ذوقها من دون ضوابط معروفة.

 

نجهل كيف تتم طباعة العملة الوطنية وظروف إنزالها الى السوق وبناء على اية معايير وكيف يتم التحكم بحاجة السوق إليها او حتى بمصيرها، فمنذ أن أصدر مصرف لبنان تعميمه الاخير حول الحد من سقف السحوبات بالعملة اللبنانية في المصارف حتى عادت عملتنا الوطنية لتكون شغلنا الشاغل ومحور أحاديثنا. صرنا نسأل بسذاجة: لم لا يتم طبع كميات جديدة من العملة متجاهلين التأثير المدمر لذلك على التضخم، أو نتساءل بخوف ماذا لو صارت عملتنا مجرد أوراق نستخدمها بدل المازوت الذي سنفتقده قريباً؟ حاولنا استقصاء حال الأوراق النقدية اللبنانية لكن يبدو أن المصرف المركزي لا يحب التكلم في هذا الموضوع، ومسؤولوه بحاجة الى تصاريح وأذونات صعبة ومعقدة للحديث عن العملة في هذا الظرف الدقيق. لكن من خلال مصادر مطلعة تعرفنا الى حقائق كثيرة حول عملتنا الوطنية الحبيبة.

 

طباعة وفق حاجة السوق

في مصرف لبنان قسم خاص يقوم بدراسة حاجة السوق الى النقد ويقيّم الحاجة الى طبع أوراق جديدة والفئات التي يحتاجها السوق، نظراً الى كثرة التداول بها ونادراً ما تطبع كل الفئات معاً. يقيّم مصرف لبنان باستمرار المخزون او الـ”ستوك” الذي يملكه ومدى تلبيته لاحتياجات السوق، وذلك حتى يعمد الى طلب طباعة أوراق جديدة متى صار المخزون لا يكفي وذلك كأية سلعة أخرى في السوق. وهذا التقييم ضروري لأن طباعة العملة عملية تحتاج الى وقت طويل يمتد بين سنة و18 شهراً منذ اتخاذ القرار حتى وصول العملة.

 

في حالة السوق الطبيعية يقوم المصرف المركزي بدراسة الفئات التي تستخدم أكثر من غيرها، وهنا المؤشر الذي يتم اللجوء إليه هو فحص الأوراق النقدية، إذ إن العملة حين تتداول تصبح مهترئة وممزقة تعود الى البنوك التجارية التي ترسلها الى مصرف لبنان، فيفحصها عبر ماكينات خاصة وفق معايير محددة لمعرفة ما إذا كانت لا تزال صالحة للتداول، او يجب تلفها لأنها باتت غير صالحة للتداول او Unfit. بعد فترة يجب وضع كميات مقابلة في السوق للأوراق التي تم تلفها وفق فئاتها، فيعمد مصرف لبنان الى إنزال كمية جديدة من مخزونه او يطلب طباعة هذه الفئات.

 

العملة الورقية إذاً تخضع لدورة حياة مثلها مثل الإنسان الذي يحملها: تولد وتعيش وتنتقل من يد الى يد ثم تشيخ وتموت. وفحص الأوراق النقدية يظهر أية فئات تهترئ قبل غيرها، أي أنها تستهلك أكثر من سواها وهو مؤشر لأي فئة نقدية يحتاجها السوق. في الأحوال العادية غالباً ما يتم طبع الفئات الصغيرة التي يحتاجها الناس في تداولاتهم اليومية مثل الألف ليرة مثلاً التي كنا نستخدمها بشدة. اما في حالة التضخم فلا تعود للفئات الصغيرة قيمة ويتم طبع الفئات الكبيرة فقط.

 

سوق متضخّمة لا تشبع

 

ماذا حدث أخيراً مع التضخم الحاصل وازدياد الحاجة الى العملة اللبنانية؟ مع ارتفاع سعر الدولار وتحديده على المنصة بسعر 3900 ليرة، إزدادت حاجة المصارف التجارية الى النقد إذ ان المودعين باتوا يسحبون كميات أكبر من العملة اللبنانية لتوازي ما يعادلها بالدولار، بخاصة وان السحوبات بالعملة الأجنبية باتت مقيدة جداً وشبه مستحيلة، كما ازدادت حاجة الدولة الى النقد لدفع الرواتب والنفقات الحكومية. من هنا باتت الحاجة مرتفعة الى ضخ عملة من الفئات الكبيرة في السوق، ومع استنزاف المخزون كان لا بد من طباعة عملة جديدة وضخها في الأسواق لتأمين الحاجة المتزايدة إليها، وان كان ذلك برأي الخبراء يساهم في ارتفاع التضخم ويزيد من عمليات المضاربة والتلاعب بالاموال في السوق. ويقول المتابعون للأرقام التسلسلية للعملة ان مصرف لبنان قد أنزل عملة الى السوق هذه السنة توازي ما أنزله في السنوات العشر الأخيرة، وانه اضطر الى طباعة كميات كبيرة من النقد. ويضيف هؤلاء ان الطباعة لم تعد تستغرق الوقت الذي كانت تستغرقه سابقاً نظراً الى ظهور أرقام متسلسلة جديدة باستمرار. وكان آخر إعلان علني لطباعة العملة في 24 كانون الأول من العام 2019 حيث تناقلت وسائل الإعلام خبر طباعة 9 أطنان من العملة الورقية من فئتي 50 و 100 ألف، تم نقلها بشاحنات للجيش اللبناني من مطار رفيق الحريري الدولي الى مصرف لبنان ليصار بعدها الى ضخها في السوق تدريجياً. واليوم ما يساعد على الإسراع في طباعة العملة انه بات يطلب الى المطابع المعتمدة اعتماد آخر نموذج موجود في السوق للفئة المطلوبة من دون إدخال أي تعديلات عليه، لا في الشكل او اللون اوالتواقيع او سمات الأمان حتى تتمكن المطبعة من تلبية الاحتياجات بسرعة.

 

أما في الأيام العادية فتتم طباعة العملة لسببين: إما لحاجة السوق الى اوراق جديدة بعد تلف الأوراق القديمة، أو بسبب اتخاذ قرار بتغيير تصميم عملة ما وغالباً ما يتم هذا الأمر مع مجيء حاكم جديد للمصرف المركزي.

 

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن لمصرف لبنان تحمل تكاليف طباعة عملة جديدة لا سيما وأن الطباعة تتم خارج لبنان وتحتاج الى عملة صعبة باليورو او الدولار؟ وهل ما زال بإمكانه طباعة الفئات الصغيرة التي باتت تكاليفها اعلى من قيمتها؟

 

للإجابة على هذا السؤال لا بد أولاً من معرفة لماذا تطبع العملة اللبنانية خارج لبنان؟ والجواب هو أن طباعة العملة عملية دقيقة جداً وتحتاج الى معدات خاصة ومتطورة وهي استثمار مكلف جداً. وغالباً ما تقوم الدول الكبرى التي تحتاج الى كميات نقد كبيرة بطباعة النقد لنفسها عبر شركات خاصة، وتقوم بالطباعة لغيرها من البلدان حتى يكون الاستثمار في المطابع مربحاً ويعطي مردوداً مالياً كبيراً. لبنان بلد صغير ولا يحتاج الى كميات كبيرة من العملة كما أنه غير قادر على تأمين التكنولوجيا الحديثة والمتطورة باستمرار للمطابع، من هنا يلجأ في كل مرة الى طباعة عملته في مطابع وبلدان خارجية. التعاقد مع هذه المطابع يتم من خلال دفتر شروط يحدد فيه مصرف لبنان المواصفات ونوعية الورق وسمات الأمان المطلوبة. وتقوم المطابع الدولية بتقديم عروض والفائز بالعرض يتولّى عملية الطباعة. أخيراً كان يتم التعامل مع شركة “غوزناك” الروسية ولكن ليس لطباعة كل الفئات.

 

الطباعة إذاً تتم في الخارج ويقول أحد المطلعين ان طباعة 1000 ورقة من اية فئة كانت تكلف المصرف المركزي بين 30 و 45 يورو ويذهب البعض الى القول ان الكلفة تصل الى حدود 60 يورو، وبالتالي فإن طباعة عشر رزمات من أصغر فئة نقدية ورقية لبنانية تكلف 10 بالمئة من قيمتها… فهل يمكن لهذا الرقم الخيالي أن يفسر ربما تعميم مصرف لبنان الأخير بالحد من السحوبات بالليرة اللبنانية لدفع المواطنين الى التعامل بالبطاقات المصرفية، علّها تبعد كأس طباعة العملة عن مصرف لبنان وتجنبه استنزاف مخزونه من العملات الأجنبية أكثر فأكثر؟

 

خبراء الاقتصاد قد يجدون لهذا التعميم أكثر من سبب او هدف، لكن في سياق موضوعنا لن نغوص في الأسباب الاقتصادية وحال التضخم التي يعيشها السوق النقدي، بل يهمنا أن نكتشف حقائق ومميزات عملتنا الورقية قبل ان نفقد علاقتنا الحسية بها ولقاءنا المباشر معها وتصبح مجرد ذكرى في بالنا.

 

عملتنا الوطنية أقرب الى اليورو من الدولار

 

تعتبر العملة الورقية اللبنانية متطورة جداً ومن بين الأفضل في العالم إذ إنها تتميز بأحدث سمات الأمان التي يصعب معها تزويرها بشكل كبير. وسمات الأمان هي ما تطوره شركات طباعة العملة باستمرار من خلال اختراعات جديدة وتقنيات متطورة. وأخيراً اثير هذا الموضوع مع ما اشيع عن وجود أوراق مختلفة من فئة 100000 ليرة، وكان على مصرف لبنان أن يصدر بياناً يشرح فيه استخدام سمات امان مختلفة بين إصدارين مختلفين لفئة المئة ألف ولكن كلاهما صالحان ومتداولان.

 

أما بالنسبة للورق المستخدم، فالعملة اللبنانية تستخدم الورق القطني الذي يتميز بملمسه الناعم وليونته لكن حياته قصيرة وتتلف اوراقه بعد فترة من الاستعمال. أما في العالم اليوم فثمة نوعان من الأوراق النقدية، الأوراق التي تستخدم القطن وتلك التي تستخدم مادة البوليمار الاصطناعية على غرار الدولار الاسترالي. وهذه الأخيرة عمرها اطول لكن ملمسها قد يكون غير مستحب لدى البعض. (علماً ان ملمس العملة ولو اشواكاً لا بد ان يفرح القلوب).

 

بالنسبة لقياس فئاتنا الورقية فإن لبنان يعتمد القياس المتبع في اليورو حيث ان حجم الأوراق يختلف بشكل طفيف بين فئة واخرى ويزداد كلما كبرت الفئة، فيما قياس الدولار هو ذاته بالنسبة للفئات كافة ربما ليشعر حاملوه بالمساواة في ما بينهم… في اول طباعة بعد مجيء حاكم مصرف لبنان الحالي كانت الأوراق اكثر طولاً ما اثار شكوى المواطنين، إذ لم تكن تتسع في المحفظات وكانت تتمزق بسرعة فتم تصغير حجم الأوراق اكثر من مرة حتى الوصول الى المقاس المعتمد لليورو.

 

أما شكل عملتنا الوطنية ولونها وتصميمها فمصرف لبنان هو الذي يقرره. والعملة المتداولة حالياً رسمت مرة واحدة مع مجيء حاكم مصرف لبنان في العام 1993حيث تم إجراء مسابقة شارك فيها لبنانيون بتصاميمهم المختلفة واختار الحاكم الديزاين الرابح. من طبعة الى أخرى، قد يختلف اللون قليلاً لكن التصميم يبقى ذاته مع إضافة أحدث سمات الأمان التي تضيفها المطابع إليه.

 

هذه هي عملتنا التي رافقت تاريخنا بحلوه ومره وربّت عائلاتنا وادفأت جيوبنا لعقود طوال… على امل ألا نضطر أن نغني لها مع الراحل ملحم بركات: إيدي لليرات شو مشتاقة، والميّة مشتاق عدّ وراقها… يا ليرة عالبعد ببكي فراقها، يمكن يجي نهار ومنتلاقى…