Site icon IMLebanon

الديموغرافيا اللبنانية: خَطرُ تَكَرُّس إنقلاب التوازنات

 

رغم أنّ تعدادَ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لدى إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بدأ منذ شباط الماضي وحُدِّدت نهايات السنة الجارية لتنشر نتائجه، إلّا أنّ مصادر مطّلعة على هذا الملف كشفت لـ«الجمهورية» أنه حتى الآن لم يتم تعداد إلّا 130 الف لاجئ فلسطيني، ما يعني أنّ استكمال هذا المشروع لا يزال يحتاج وقتاً يتجاوز نهاية السنة. فالتأخير الحاصل مبرَّر نظراً الى صعوبة المهمة ودقتها والإشكالات الفنّية وغير الفنّية التي تواجه تنفيذَها.

ويُعتبر هذا التعداد مهماً لأسباب عدة، فهو الأول من نوعه في لبنان منذ العام 1984. والثاني أنه يخرق «عقدة الخوف» اللبنانية من الدخول في إيضاح أرقام الديموغرافيا التي تقيم في لبنان، ويتجاوز محظور أن تبقى هذه الأرقام مكتومة حتى لا تستثار التوزانات الطائفية والمذهبية.

صحيح أنّ اللاجئ الفلسطيني له وضعية «الضيف»، ولكنه ايضاً بحكم وجوده الطويل في لبنان وبحكم التوجّس من أنّ التسوية النهائية لن تحلظ عودته الى فلسطين، فإنه أصبح كـ«رقم» يمثّل جزءاً من «فوبيا» اللبنانيين من الخوض في إحصاءٍ يحدّد أرقامَ تركيبتهم الديموغرافية وتوزّعها على الطوائف والمذاهب.

والى ما تقدّم فإنّ توقيت إجراء هذا التعداد الذي يشمل، الى إحصاء أعداد اللاجئين، تعداد المساكن والوضع التعليمي والصحّي والبنى التحتية وغيرها، يتمّ في توقيت سياسي مثقل بتوقّع تحريك التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي بدفع من الإدارة الأميركية الجديدة. ويتم أيضاً في لحظة طارئة تتمثّل في أنّ خريطة اللجوء والنزوح في لبنان، باتت في شقّين فلسطيني وسوري.

بمعنى آخر فإنّ لبنان يتحمّل حالياً الجزءَ الأكبر من التبعات الإجتماعية الناتجة عن نكبة فلسطين ونكبة الحرب السورية. ويتمّ ذلك في ظروف تخلّي وكالة «الأُونروا» عن جزءٍ مهمٍ من واجباتها لتمويل استيعاب لبنان للجوء الفلسطيني، وتلكُّؤ المجتمع الدولي عن تسديد الجزء الأكبر من وعوده للبنان لمساعدته في إغاثة النزوح السوري اليه.

بات تعدادُ اللاجئين الفلسطنيين والنازحين السوريين في لبنان يتجاوز ثلثَ الشعب اللبناني. علماً أنّ هذه النسبة المفتوحة على الإرتفاع، مبنيّةٌ على تقديرات وليس إحصاءات علمية شاملة.

والأخطر في هذا المجال، أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة حصلت تبدّلات ديموغرافية وأمنية وسياسية مهمة داخل بيئة ديموغرافيّتَي النزوح واللجوء في لبنان، تمثّلت بالآتي:

ـ أولاً، هناك مخيمات لجوء فلسطينية تحوّلت مخيمات نزوح سورية. مخيم برج البراجنة أبرز هذه الأمثلة حيث اصبحت نسبة النازحين السوريين فيه 70 في المئة مقابل أعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين يقيمون فيه (الفلسطينيون المتبقّون استأجروا منازل أرخص في بلدات لبنانية وأجّروا منازلهم في المخيم بسعر أكبر للنازحين السوريين) ويعني هذا الامر أنّ التداخل بين بيئتي النزوح واللجوء خلق دورة تفاعل اقتصادية أنتجت حركة مناقلات سكنية.

كما أنّ مخيّماتٍ فلسطينيةٍ أخرى تحوّلت مخيّمات مشترَكة لبيئتي النزوح السوري واللجوء الفلسطيني كحال ما يحدث في عين الحلوة (ثلثا المقيمين فيه نازحون من سوريا ولاجئون فلسطينيون من سوريا).

– ثانياً، بروز ظاهرة تغلغل الجماعات الإسلامية المتشدّدة الإرهابية داخل بيئات النزوح السوري واللجوء الفلسطيني. وهذا الأمر عوّض الإرهابيّين عدم وجود بيئات حاضنة بالمعنى الواسع لهم بين ظهرني المجتمع اللبناني.

وما شجّع الجماعات المتطرفة على الهجرة للإقامة في هذه البيئات اللاجئة والنازحة، هو أنها بالنسبة الى المخميات الفلسطينية، لا تخضع لسلطة وجود الدولة فيها، وبالنسبة الى بيئات النزوح السوري هو أن ليس لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية «داتا» معلومات كاملة عن نحو ثلثها التي جاءت الى لبنان بنحو غير شرعي، وهؤلاء تحتكر المفوّضية السامية للاجئين المعلومات عنهم، ولا تقدّمها للدولة اللبنانية.

ـ ثالثاً، أدّى ضرب الديموغرافيا الفلسطينية اللاجئة في كل من سوريا والعراق، الى مجيء قسم منها عشوائياً وخارج مراقبة الدولة الى لبنان. وكل هذه التبدّلات التي دخلت على الديموغرافيا اللبنانية في غضون السنوات القليلة الماضية، تحتّم على لبنان خوض غمار إيضاح أرقامها، وامتلاك «داتا» معلوماتية كاملة عنها، كون أنّ خطرها أصبح «وجودياً» من منظار طوائف معنيّة باستقرار التوزان الطائفي، وذا أخطار أمنية من منظار طوائف أخرى تتوجّس من تمدّد الفتنة المذهبية الى لبنان، وذا بعد يهدّد قدرة الاقتصاد اللبناني على التحمّل، وقدرة الهوية اللبنانية على الحفاظ على مقوّماتها من منظار الموجبات العليا للأمن القومي اللبناني.

وداخل أروقة الدولة المهتمّة بهذا الملف، يوجد تقدير موقف في شأن مستقبل بيئات النزوح واللجوء في لبنان، ارتباطاً بتحوّلات متوقّعة في المنطقة، يفيد أنّ حلّ الأزمة السورية سيسير في ثلاث مراحل: الأولى، الإتفاق على خريطة سياسية لإعادة إنتاج الحكم في سوريا، ومداها الزمني قد يكون منظوراً. والثانية مداها متوسط وتتعلّق بتطبيق نتائج الاتفاق السياسي والذهاب الى انتخابات ووضع دستور، الخ… والثالثة ومداها بعيد وتتصل بإعادة الإعمار وإعادة النازحين.

أي إنّ موقع عودة النازحين هو في المدى الأبعد ضمن الترتيب الزمني لحلّ الأزمة السورية. وخلال مؤتمر لندن للمانحين الأخير، تمّ تداول تقدير أشار الى أنّ حلّ تبعات النزوح التي ترتّبت على الأزمة السورية قد يستغرق من 7 الى 10 سنوات، أي إنّ على لبنان أن ينتظر عقداً من الزمن ليبدأ مسار عودة النازحين. وفي مقابل ذلك فإنّ ترتيب النقاش في قرار حقّ العودة، يقع ايضاً في المرتبة الثالثة والأخيرة على جدول التفاوض الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وهو مدرج تحت تسمية «المفاوضات النهائية» التي تتعلّق بقضية القدس وحق العودة.

وهذا يعني أيضاً أنّ عمرَ اللجوء الفلسطيني في لبنان مستمرّ في أحسن التوقعات الوردية عن بدء المفاوضات، الى 15 عاماً. فيما عمر النزوح السوري مستمرّ لعقدٍ آت.

وفي الحالتين ليست هناك ضمانات بأنّ عودة النازح السوري التي يُشترط أن تكون طوعية وآمنة، أو عودة اللاجئ الفلسطيني التي يُشترط حصولها بموافقة إسرائيل، ستحدث، وذلك نظراً الى وجود عقبات كثيرة قد تبرز في حينه.

فيما التفاعل الجاري بين بيئتي النزوح السوري واللجوء الفلسطيني يؤشر الى أنه بمضي أقل من عقد من الزمن سيتّجه ليصبح بيئة إجتماعية واحدة تشترك في علاقات إقتصادية وحتى مفاهيم سياسية متقارِبة كونها تعيش الظروف الإجتماعية والمعيشية والأمنية والسياسية نفسها في لبنان.