يواجه لبنان في المرحلة القريبة القادمة واحداً من أهمّ الاستحقاقات السياسية والوطنية. فالشعب اللبناني مدعو الى انتخاب مجلس نيابي جديد ابتداءً من منتصف شهر أيار القادم. وبعيداً عن الدخول في سجالات حول احتمالات تنفيذ هذا الاستحقاق أو تأجيله، فقد برز عامل مهمّ جداً من حيث تأثيره على نتائج هذا الاستحقاق وبالتالي على الحياة السياسية في لبنان. هذا العامل هو بالتأكيد «الدياسبوراه اللبنانية» أي اللبنانيون المنتشرون في العالم. ولأوّل مرة، في تاريخ الانتخابات اللبنانيّة، تتحرّك الدياسبوراه بمثل هذا النشاط وهذا الحماس وتتقدّم (وتقدّم) الى صناديق الاقتراع بما يزيد عن 125 الف ناخب في مختلف دوائر الاقتراع في كافة انحاء الجمهوريّة اللبنانيّة!
فماذا عن الدياسبوراه اللبنانية عامة؟
وأي دور لها في تقرير المصير الوطني؟
أولاً: في الدياسبوراه
تعود لفظة الدياسبوراه الى الفعل (Disséminer) ومعناه تبعثر جماعة من الناس. وبالعربية: الشتات. وهذا التبعثر للجماعة عائد لظروف مختلفة في أوقات مختلفة ولأسباب مختلفة كان أوّلها سبب ديني. ومن هنا ولد مفهوم الدياسبوراه اليهوديّة. ثلاثة عوامل أسهمت في نشوء مفهوم الدياسبوراه:
1 – هجرة عائدة لظروف إجباريّة: الحرب والمجاعة.
تكامل مع شعب بلاد الهجرة دونما اندماج فيه.
وجود صلة دائمة ومستمرّة مع أرض بلد المنشأ وثقافة أهله.
وعليه، يمكن القول ان السبب الأساس لنشوء الدياسبوراه هو: السفر تأميناً للنجاة.
2- يرى دراسو الدياسبوراه العالميّة انها بطبيعتها تعود الى ثلاثة أنواع.
النوع الديني (أو المذهبي) الذي يشكّل فيه الدين عامل الجمع لجماعة الشتات المهجّرة او المهاجرة والمرتبطة عادة بلغة مقدّسة وهذه هي حال الدياسبوراه: اليهوديّة والأرمنيّة واليونانيّة.
النوع السياسي – الايديولوجي العائد لمفهوم: الدولة – الأمّة (L’Etat – Nation) حيث تحتل الأرض قوّة خارجيّة مستبدّة ويصبح جل همّ قوى الشتات طرد قوى الاحتلال وإقامة الدولة – الأمة الجديدة بشعبها. وهذا هو وضع الفلسطينيين والأكراد.
النوع الحضاري – الفني القائم والمعبّر عن روح المبادرة للإنشاء والتأسيس (L’Esprit d’Entreprise):
فالديانة لدى هذا الشتات متنوعة.
والدولة – الأمّة حولها جدل وليست حاسمة وأحيانًا منقسمة.
وهذا هو وضع الدياسبوراه اللبنانيّة والصينيّة والهنديّة.
وعليه يمكن التأكيد في غياب عاملي الديانة والأمّة، ان محورية العمل لدى الدياسبوراه هي البناء كقاعدة لهذه الدياسبوراه: قاعدة في كافة أبعادها الفكريّة والسياسيّة والهندسيّة – الايديولوجيّة.
في عودة الى مسار تاريخ لبنان منذ أقدم العصور الى اليوم منذ الفينيقيين الى الموارنة، فإنّ السمة المميزة لشعب لبنان كانت وما زالت قاعدة التأسيس:
– المبادرة الى صياغة ألفباء فينيقيّة كانت بمثابة قاعدة أساسيّة لبناء الحضارات الانسانيّة على مستوى العالم.
– المبادرة المارونيّة، في لبنان وديار الانتشار الى قيام كنيسة مارونيّة ومؤسسات دينيّة ورهبانيّة وفكريّة ومجمعيّة ووطنيّة (لبنان الكبير) بما فيها الدياسبوراه اللبنانيّة والعمل لبلورتها وتقويتها في جميع أنحاء العالم بالاشتراك مع لبنانيّين مؤمنين بلبنان: كيانًا ودولةً ومصيرًا.
ثانيًا: في حجم الدياسبوراه اللبنانيّة: 12 مليوناً.
كانت الدياسبوراه اللبنانية عرضة لتقديرات مختلفة تبعاً للأدوار والمواقف السياسيّة (والدينيّة) وعلاقتها بالمصير الوطني اللبناني، ولذا كانت الأرقام تختلف بين جهة وأخرى. الى أن استقر اليوم حجم الدياسبوراه اللبنانية على الرقم 12 مليوناً كما أكّدته نشرة أطلس شعوب العالم (Le Monde) للعام 2018 وعلى عدد سكان لبنان آنذاك وهو 5.8 ملايين نسمة أي ان الدياسبوراه اللبنانيّة تعادل ضعفي عدد سكانه. وهذه النسبة بين المنتشرين والمقيمين لها تأثير مهمّ وربّما حاسم على الخيارات السياسيّة في المصير الوطني.
ثالثًا: دور الدياسبوراه في المصير الوطني.
عشية إجراء الانتخابات النيابيّة في لبنان، ومدى الأزمة الخانقة التي يمرّ بها الوطن، يطرح السؤال: ما الذي يمكن ان تقدّمه الدياسبوراه للبنان: الوطن الحرّ والدولة المحرّرة والشعب المأزوم!
1 – على الصعيد الخارجي يمكن اختصار هذا الدور بالتأثير المعنوي والسياسي على دول القرار في مختلف أنحاء العالم كي يقفوا الى جانب الشعب اللبناني في سعيه للعيش بحرية ورفاهية وسلام وهذا الدور يشمل منظمات الأمم المتحدة والدول العظمى والدول العربية وعلى رأسها جامعة الدول العربية.
2 – على الصعيد اللبناني الداخلي لدى الدياسبوراه مهمتان أساسيتان. واحدة مادية وهي استثمار او ضخ الأموال بالعملة الأجنبيّة لدى الأهل في الوطن كي يستمرّوا في القدرة على مواجهة الظروف الصعبة وهو ما فعلوه دائماً ويفعلونه بالتزام وطني وأخلاقي. والثانية سياسية وهي المشاركة بفعاليّة وقوّة والتزام في التصويت في الانتخابات القادمة وفي دعم القوى التي تمثّل خط السيادة اللبنانيّة وحرية اللبنانيّين وانتماءهم العربي. وإعطاء الفارق المطلوب لانجاح قوى التغيير وتحرير لبنان من هيمنة قوى التبعيّة والاستغلال.
****
في الخلاصة، يمكن التأكيد أن للدياسبوراه اللبنانيّة دوراً مهماً وأساسياً في المصير الوطني. ذلك أن ما استقر عليه الفكر الحديث هو ان الديموغرافيا هي التي تصنع التاريخ.
ولهذا فان ديموغرافيا الدياسبوراه اللبنانية هي خشبة الإنقاذ القادرة في ظروفنا الحاليّة على المساهمة في صنع تاريخ لبنان السيّد والحرّ والمستقلّ.
.. وهذا ما يأمله ويتمنّاه اللبنانيّون.