Site icon IMLebanon

المشهد الانتخابي اللبناني وحداثته المخادعة

 

الحداثة رؤية جديدة الى السياسة والمجتمع قوامها مبادئ وأفكار وثقافة تتعامل مع الإنسان بوصفه حراً وراشداً وقيمة في حد ذاته، وباعتباره المسؤول الأول والأخير عن وجوده الاجتماعي، والمقرّر باختياره وإرادته لنظامه السياسي، والقيم والمعايير التي هي أساس هذا النظام وجوهره. ما شكّل في نهاية الأمر فضاء مختلفاً مهّد للديموقراطية كآلية لإخراج هذه الرؤية الى الوجود السياسي والاجتماعي ووضعها موضع الفعل، فالليبرالية إذاً متقدمة تاريخياً على الديموقراطية ومؤسّسة لها وليس العكس.

المشهد الانتخابي الراهن في لبنان يتناقض مع هذا الاتجاه التاريخي، يوهم من جهة وكأن ثمة تحولاً ديموقراطياً جذرياً سيقلب الصورة النمطية التقليدية المتوارثة للانتخابات اللبنانية، بينما يفصح من جهة أخرى عن زيف الشعارات السائدة ومخادعتها، كاشفاً هشاشة المفهوم الديموقراطي المتداول والتباسه وفراغه من مضمونه الحداثي، مؤكداً استمرار هيمنة العقل القروسطي على السياسة اللبنانية وترددها في الانخراط بالمنظومة الحداثية بما تعنيه من انتماء مواطني ومساواة مدنية وحقوق إنسان.

أليس هذا ما آل اليه القانون الانتخابي الجديد الذي استنزف سنوات من الجدل والمخاض ليعيدنا الى القرون الوسطى وتسوياتها الطائفية البائسة، بعيداً من مبادئ الحداثة السياسية وقيمها وأعرافها، مكرساً ارتهان السياسي والاجتماعي والمدني للطائفية والمذهبية. فعلى رغم كل الشعارات السائدة – تعددية، نسبية، ديموقراطية – لا تزال الاعتبارات التقليدية، الطائفية والمذهبية والعشائرية، هي المتقدمة على ما عداها من التنظيمات المدنية والعصرية المفترض استقلالها عن الطوائف والمذاهب. وهكذا فالسمة السياسية للمشهد الانتخابي اللبناني الراهن تتجلّى في يقظة العصبويات الطائفية والمذهبية والعشائرية التي تعود الى الساحة بزخم، فيما تحاصر الى حد الاختناق الوجوه العلمانية الخارجة عن السياق الطائفي المعهود. ليس أدل على ذلك من إقصاء الشعارات الوطنية الجامعة لمصلحة انفتاح التكتلات الطائفية والعشائرية على بعضها على رغم تاريخ طويل من النزاع والثأر والدم، في محاولة لإعادة ترتيب زعاماتها والإبقاء على هيمنتها المؤبدة على المجتمع اللبناني. أليس هذا ما تعنيه المساعي الحثيثة لتوريث الزعامة الى الأبناء والأحفاد والأصهار؟

على خلفية هذا المشهد السائد تبرز لا مبالاة شرائح واسعة من اللبنانيين إزاء الانتخابات وعدم اكتراثهم بما ستؤول اليه، اذ ليس ما يؤرقهم انتقال كرسي نيابي من زعيم الى آخر من النمط التقليدي إياه من دون تغيير في الرؤية والتوجه، او انتقالها الى وريث يقتفي خط «السلف الصالح»، بل ان ما يؤرق هؤلاء أو نخبهم المتنورة على الأقل، يتمثل في تلك الأسئلة التي لا تفتأ تلاحقهم من دون ان يجدوا لها أجوبة تبدد القلق الذي يكابدونه. فلماذا يبقى القرار السياسي في لبنان رهناً بالإقطاع الطائفي والعائلي المهيمن منذ القرون الوسطى على رغم الكم الهائل في أعداد الجامعات والأكاديميين؟ لماذا كل ذلك القصور التاريخي في الاندماج الاجتماعي، وفي تشكل الهوية المواطنية؟ كيف قيّض لنظام الملل العثماني ان يبقى كامناً فينا يعود ويستيقظ حيناً بعد حدين، بعد ان ظُن أنه بات من التاريخ؟ ولماذا يطل الانشطار والازدواجية يهددان بنانا الاجتماعية، وتبقى حداثتنا السياسية زائفة ومخادعة، مفرغة من قاعها العلماني، وتبقى ديموقراطيتنا مبنية على قاع قروسطي؟

كما ان ثمة أسئلة أكثر تحديداً والتصاقاً بالواقع اللبناني، أياً تكن حصيلة الانتخابات. فكيف سيتم التصدي لإشكاليات تبدو مستعصية، من إشكالية مديونية فاقت الثمانين بليون دولار الى اشكالية الفساد الإداري والمالي مروراً بإشكالية بطالة شباب لبنان وهجرة كفاءاته العلمية؟ كيف ستحل مشاكل نفاياته وتلوث بيئته ومياهه وأنهاره؟ كيف سيواجه اشكالية العنف والتطرف المستشريين في محيطه العربي والإقليمي ليبني مجتمعه على أسس غير قابلة للسقوط او الاهتزاز؟

أسئلة مربكة حقاً تحاصر اللبنانيين في ما هم مشغولون بما لا يقدم أي تصور لتحدياتها، ولا يحمل أية اجابة عما تضمره لمستقبلهم المحفوف بالأخطار.