مجتمعنا يتعرّض اليوم لأبشع أنواع وسائل الزوال حيث نجحت فئة بسبب جشعها الماديّ ونفعيّتها البائدة، ببثّ النَفَس الانهزامي اليائس وسط هذا المجتمع، فجعلت منه مجتمعاً ميتاً لا يعرف إلى الحياة سبيلاً. لكن فات هؤلاء أنّ هذا المجتمع هو عاصٍ عن الزوال بسبب مَن هو مستعدّ فيه حتّى هذه اللحظة أن يضحّي من أجل بقاء المجموعة. ولعلّ هذا ما يجعل منه مجتمعاً حيّاً حتّى في أحلك الظروف التي يمرّ فيها.
ونعلم جميعنا أنّ هذه وحدها غير كافية لأنّ المطلوب كثير، فالزرع كثير والفعلة قليلون. فما ينقصنا اليوم هو المزيد من المعرفة التي تنطلق أوّلاً من معرفة الذات الجماعيّة. هذه الذات التي نجح بشرذمتها أدعياء الوطنيّة والتضامن الاجتماعي، فجعلوها ذوات مصلحيّة نفعيّة ذاتيّة وفرديّة. يكفي أن نشهد مثلاً كيف نجح حزب «القوّات اللبنانيّة» باستعادة حقّه في تمثيل المجتمع المسيحي بعد أكثر من أربعة عقود من الادّعاء بصون الحقوق. ليتبيّن بالممارسة والتجربة أنّ هذه الحقوق التي دافع عنها فريق من المسيحيين لم تكن إلا حقوقاً فرديّة – ذاتيّة- عائليّة لا تمتّ إلى الجماعة بشيء من الواقعيّة والحقيقة.
هذا الفريق السيادي المقاوِم عبر الزمن الذي لا ينكر لحظة من ماضيه، بل الأكثر من ذلك هو على ارتباط وجداني تاريخيّ عقائديّ مع تاريخ وجوده في هذه الأرض التي دفع ثمنها تضحيات وعرقاً ودماء يكاد لا يتحمّلها أيّ فريق آخر في لبنان. وبعد أكثر من ذلك كلّه، نجح هذا الفريق، عدا عن حفاظه على بعده الوطني اللبناني الصرف، بنسج علاقات مع محيطه العربي التي بدأت مع الرهبان الموارنة السريان الذين كانوا عماد النّهضة العربيّة بعد عصر الانحطاط وصولاً إلى علاقات حسن الجوار مع هذا الفريق بالذات. لكنّ هذه العلاقات تمّ تدميرها لضرورة ارتباط المشروع الإقليمي الأيديولوجي بمنظمة «حزب الله» وحلفائها الذين يرتبطون بنظام ولاية الفقيه في الجمهورية الاسلاميّة في إيران.
فهذا الفريق بالذات، أي سلطة إيران في لبنان، يصبح ضنيناً بالحوار الوطني عند انسداد الأفق أمامه سياسيّاً، مع العلم أنّه كان يلجأ في الماضي إلى استخدام سلاحه في مثل هذه الحالات. لكنّه اليوم بات عاجزاً على القيام بذلك نتيجة لخضوعه الدّولي في ملفّ الترسيم، لأنّه قدّم ضمانات للمجتمع الدّولي لا يستطيع التنكّر لها لأنّها قد تشكّل نهايته في حال خالفها. فهو يستقتل لتسيير العجلة الحكوميّة لأنّه لم يعد يستطيع الاعتماد على مصدره الأساسي أيّ إيران. ومخطئ مَن يظنّ حتّى الساعة أنّ بيئته الحاضنة هي بمنأى عن الأزمة الاقتصاديّة التي تسببت بها سياساته الخارجيّة.
من هنا، طبيعة المعركة اليوم هي في الصمود والمواجهة المستمرّة. فالمجتمع الذي يصمد أكثر، فريقه السياسي هو الذي سينتصر بالمشروع السياسي الذي يحمله. فلذلك لا يمكن الإستسلام أو الرحيل أو الخضوع. فهذه الخيارات الثلاثة هي قاتلة بحدّ ذاتها. ففريق إيران لن يفرّط بسيطرة دويلته على الدّولة. من هنا بالذات نفهم استماتته للسيطرة على رئاسة الجمهوريّة لأنّها تؤمّن له صورة وهويّة لبنان الذي يريده. وهذا بالطبع ما يتناقض مع صورة وهويّة لبنان الذي نريده نحن كسياديّين أحرار.
وما يجب أن يدركه النّاس كلّهم أنّ هذين المحورين لهما علاقاتهما الدّوليّة. والأكثر فريق إيران في لبنان مرتبط عضويّاً وأيديولوجيّاً بمشروع الجمهوريّة الاسلاميّة الذي يتخطّى الحدود الجغرافيّة، وتحدّده العقيدة الأيديولوجيّة. بينما المحور السيادي يرتبط بعلاقات وصداقات لا يسمح بأن تؤثّر في ما يراه مصلحة له وللبنانيّين مجتمعين. والدليل في ذلك يكمن في رفض المشروع الفرنسي الذي يقوم على تأمين مصالح فريق الرئيس ماكرون في إيران ولو على حساب السيادة اللبنانيّة.
ومخطئ مَن يظنّ حتّى الساعة أنّ منظّمة «حزب الله» قد سارت في ملفّ الترسيم تحت ضغوطات دوليّة لتأمين مصلحة المجتمع الدّولي بهدف السكوت عن تجاوزات هذه المنظمة المصنّفة إرهابيّة في العديد من دول هذا المجتمع. لقد سارت هذه المنظمة بالترسيم لأنّ بيئتها اليوم بأضعف لحظاتها. الكلّ يتذكّر تلك الثائرة التي قالت: «يا سيّد الكرامة جوّعتنا ولادنا جوعانين». فهو اليوم لم يعد قادراً أن يؤمّن لبيئته ما كان يؤمّنه لها عبر إيران المتهاوية تحت ضغط التظاهرات ضدّ نظام الملالي فيها.
فهو يترقّب الاستفادة من شركات الخدمات التي ستأتي للإستثمار في مجالي الغاز والنّفط، لا سيّما أنّ الجنوب اللبناني سيكون نقطة الانطلاق. فعلى ما يبدو أنّ هذا ما استطاع انتزاعه من فريقه المسيحي أيّ «التيّار» عبر وثيقة مار مخايل. وما يجب التنبّه إليه هنا هو الإشكاليّة العقائديّة التي نتجت عن تبدّل الاستراتيجيّات عنده، حيث تحوّل من فريق دينيّ عقائديّ لا ينزلق إلى الاستثمارات الاقتصاديّة، الى شريك مضارب مع الدّولة ومختلف الشركات التي ستؤمّ هذا القطاع في لبنان.
تشبه هذه المرحلة في تكتيكاتها مرحلة دخول هذه المنظمة في الحياة السياسيّة. فالواقع فرض عليها اليوم هذا التحوّل الاستراتيجي من العقيدة إلى الاستثمارات. وهي مدركة كلّ الإدراك أنّها تخوض معركة وجود لا يتثبّت إلا بصمود البيئة الحاضنة؛ فمَن يصمد إلى المنتهى يخلص. فهل ستنجح منظمة «حزب الله» بإقناع بيئتها الحاضنة بالتحوّل اقتصاديّاً كما نجحت سياسيّاً لتصمد أكثر؟ أو قد يشكّل هذا التحوّل نهايتها عقائديّاً؟