تمارس الإدارة الفرنسية، أقصى الضغوطات، بما تيسّر لديها من وسائل، لكي تولد الحكومة اللبنانية. تريدها اليوم قبل الغد بأجندة إصلاحية واضحة تسمح بإعادة انتظام المالية العامة، وبشكل يقفل مزاريب الهدر والفساد التي تحوّل الدعم المالي الذي سيصبّ في الخزينة العامة إلى جيوب القوى السياسية وصناديق تمويلها.
وها هو وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان يكرر للمرة “العشرين” أنّ بلاده ستتخذ إجراءات بحق من عرقلوا حلّ الأزمة، فيما يبدو أنّ “مشروع” توجّه رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل إلى باريس لشرح وجهة نظره وتبرئة ساحته من الاتهامات التي تساق بحقه، لم يرَ النور، أقله حتى الآن، طالما أنّ باريس اشترطت حصول هذه الزيارة بتقديم ضمانات جدية تثبت بأنّ الحكومة ستولد في القريب العاجل.
وفق المتابعين، فإنّ هذا الضغط الذي تقوده باريس مدعومة بالإدارة الأميركية الجديدة، يفترض أن يثمر حكومة في مهلة لم تعد بعيدة، خصوصاً وأنّ ثمة قواعد تمّ التفاهم عليها، وهي أن تكون حكومة من 24 وزيراً، لا ثلث معطّلاً فيها. ومع ذلك فقد تحتاج التفاصيل إلى الكثير من الأخذ والردّ ومزيد من الضغط، وقد تقع في مطبات الخلافات التي قد تجعل من عمر التأليف طويلاً.
ولكن وفق هؤلاء، فإنّ القوى السياسية محكومة بعامل الوقت، وبعدّاد مصرف لبنان من احتياطي الدولار، ما يعني أنّهم لا يملكون ترف الوقت والتمادي أكثر، ولو أنّ خصوم رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري يتهمونه بالمماطلة، كونه يخشى مواجهة انفجار رفع الدعم عن المواد الأساسية الذي سينفجر في وجهه في ما لو قام بتأليف حكومة قبل “اللحظة المشؤومة”. ولكن بالنتيجة، لن يكون بمقدوره المماطلة كثيراً اذا ما تمكنت الدول المعنية، من تذليل بعض العقبات وأقنعت بقية الأطراف بأنّ ساعة الولادة لا بدّ أن تحصل في القريب العاجل.
في المقابل، ثمة سيناريو يتم رسمه بشكل مختلف كلياً، ينطلق من استحالة التعايش بين “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل” تحت سقف الحكومة. لا يتردد بعض العونيين في القول صراحة إنّهم يخوضون معركة مصيرية: فإما تكون حكومة انقاذية قادرة على انتشال البلد من قعر افلاسه، وإما هي الفوضى التي ستعيد ترتيب الأوراق على نحو جذري. حتى أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون تحدث عن “الفوضى الحتمية” التي قد نعبرها قبل أن يتمكن من تسليم البلد على نحو أفضل مما تسلّمه. ما يعني وفق النظرة العونية، هي معركة ما تبقى من العهد، ليربحوها بالكامل من دون الحاجة إلى عبور نفق “حكومة ترقيعية” سرعان ما ستغرق في مستنقع خلافاتها، بسبب رفض القوى الشريكة البرنامج الإصلاحي حتى لو أدّعت العكس.
وفق هذه النظرة يفترض أن تقود هذه المعركة إلى تحسين موقع المسيحيين في النظام برمته من بوابة الأزمة الاقتصادية – المالية – الاجتماعية التي سرعان ما ستنفجر وتطيح بكل شيء. ولعل هذا أكثر ما يثير مخاوف رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الذي كان أول من روّج لمنطق التسوية خشية مما قد يحمله البركان الاجتماعي من حمم انقلابية. وهو سبق له أن حذّر رئيس الحكومة المكلف من مغبّة تكبير حجر الأزمة واللعب على حافة الهاوية، لأنّ الوقت قد لا يكون لمصلحته أبداً.
في قوى الثامن من آذار من يعتقد أيضاً أنّ احتمال عدم تأليف حكومة في المدى المنظور، بات قوياً نظراً للخلافات العميقة بين رئيس الجمهورية ورئيس “التيار الوطني الحر” من جهة ورئيس الحكومة المكلف من جهة أخرى، فضلاً عن العوامل الذاتية التي تدفع الأخير إلى تهيّب قرار التأليف اذا لم يضمن أنّ المملكة السعودية لن تغضب عليه أكثر.
وفق هؤلاء، فإنّ الأفق المسدود الذي يواجه الحكومة قد يؤدي إلى بقاء حكومة حسان دياب المستقيلة حتى نهاية العهد، خصوصاً أنّ “حزب الله” غير مستعد لتكرار تجربة حكومة مختلّة الميثاقية بمعنى امتناع “تيار المستقبل” عن المشاركة فيها، في ما لو اعتذر الحريري عن التأليف، ما يعني أنّ عدم التفاهم بين الفريق العوني والفريق المستقبلي سيبقي العهد بلا حكومة جديدة!
يضيف هؤلاء أنّ هذا الانسداد لا يلغي أبداً احتمال حصول الانتخابات النيابية في موعدها كونها مطلباً دولياً لا يمكن تجاوزه ولكونها قد تكون انطلاقة إلى ما هو أكثر أهمية: المؤتمر التأسيسي. سبق للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله أن ألمح إلى أن “الحزب” وضع على طاولة نقاشه الثغرات التي يعاني منها النظام ملمحاً إلى امكانية البحث في هذه الثغرات من باب معالجتها. وهذا ما يعني أنّ احتمال الانتقال إلى حقبة جديدة من النظام اللبناني، باتت جدية.
السؤال هو كيف سيكون هذا الانتقال؟ وهل بمقدور الوضع تحمّل المزيد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية بانتظار تلك الساعة؟ وهل بمقدور القوى السياسية وتحديداً المسيحية تحمّل أكلاف الانفجار على المستوى الاجتماعي؟ أم أنّ الانفجار سيسرّع الحلّ الشامل؟