بعد سجال كبير حول عودة المغتربين اللبنانيين كان أحد عنوانَين مع قضية التعيينات المالية، كادا يطيحان بالحكومة، بدأت طلائع لبنانيي الاغتراب في الوصول بسلام الى الوطن ليتجاوز لبنان المراحل الأولى على هذا الصعيد في رحلة الألف ميل الطويلة.
مطلب انتخابي؟
والواقع أنه لولا تهديد رئيس مجلس النواب نبيه بري بتعليق مشاركته في الحكومة، وهو كان يعني فعلياً سحب تلك المشاركة بعد حين، لم يكن أركان الحكومة ليَمضوا في هذا الأمر الشائك والدقيق.
وإضافة الى موقع بري في المعادلة وأهمية الموضوع الاغترابي بالنسبة إليه والذي يشكل شريان حياة لحركة «أمل»، فقد وقف «حزب الله» بقوة وراءه مؤيدا له ومتوليا إخراج الأمور بين رئيس مجلس النواب من جهة، والحكومة من جهة أخرى، ويزيد البعض عليها العهد و«التيار الوطني الحر» من جهة أخرى.
وفي مواجهة بري والحزب، لم يكن الآخرون في حماسة من أمرهم لإعادة المغتربين، ليس لعدم رغبتهم بذلك، بل لأن حكومة الرئيس حسان دياب كانت تخطو خطواتها الأولى في محاصرة وباء «كورونا»، محققة أداء جيدا ونجاحا مقبولاً في معركة بدت غير متكافئة زُجت بها الحكومة طرية العود وذات الوجوه غير ذات الخبرة في مجال الأزمات الكبرى.
ويبرر كثيرون الموقف المتردد للبعض من الموضوع فور طرحه لكونه ورد في ظروف دقيقة وصعبة، بدت معها آلية إعادة المغتربين أواخر الشهر الماضي مختلفة عن السابق مع توقف معظم شركات الطيران عن العمل وإعلان العديد من الدول إقفال المطارات، الأمر الذي كان يتطلب اتصالات على أرفع المستويات بين الدول. كما أن بعض هؤلاء غمز من قناة الاستثمار الانتخابي لموضوع المغتربين في الخارج في الانتخابات النيابية المقبلة، إذ أتاح القانون المُعتمد اليوم للانتخابات للبنانيين المقيمين في الخارج فرصة ممارسة حقهم في الاقتراع من دون تكبد مشقة العودة إلى لبنان.
«الأمان المعنوي»
في كل الأحوال، مع وصول الدفعات الأولى من المغتربين في ظل استنفار لكامل أجهزة الدولة التي وضعت خطة احترافية عبر إجراءات أمنية وطبية ووقائية وإدارية رافقت هذه الرحلات الى مطار بيروت، يبدو دياب وحكومته ممسكَين حتى الآن بزمام الأمور.
والحال أن شأن الاغتراب ليس تفصيلاً بالنسبة الى لبنان، هو عنصر يبث الحياة في المجتمع اللبناني القائم في جزء كبير منه على تحويلات لبنانيي الخارج، وثمة تقييم إيجابي لدى الديبلوماسية اللبنانية والسفارات المعنية وغيرها حتى الآن. ولا شك أن نجاح وصول المغتربين سيشجع على متابعة الرحلات في ظل تقديم ما يزيد على 21 ألف لبناني في الخارج طلبات للعودة، وهو العدد الذي قد يزداد في حال مرّت المراحل الأولى من العودة بسلاسة.
على أن مراحل العودة وآلياتها ليست واضحة وربما ليست مُجدولة حتى الساعة، وتذهب أوساط ديبلوماسية الى إبداء الأمل في أن يعود نحو ألفي لبناني من الخارج نهاية الأسبوع الحالي في ظل إجراءات وقائية وإدارية ولوجستية في الخارج.
وتتركز غالبية طلبات العودة من لبنانيي أفريقيا. ففي تلك القارة السمراء حيث يتمركز نحو 350 ألف لبناني، ثمة رغبة لدى شرائح كبيرة في العودة، من دون أن يعني ذلك أن لبنانيي الإغتراب الآخرين لا يرغبون بمثل تلك العودة، وخاصة في الدول التي تعاني مأساة على صعيد الوباء. لكن في دول أفريقية عدة يخشى اللبنانيون من نظام صحي غير موثوق يفضلون عليه الطبابة في لبنان حيث المستشفيات أكثر تقدماً، وحيث سيشعرون في وطنهم بـ«الأمان المعنوي» المفقود هناك وهو أمر غريزي في أماكن غير مستقرة سياسياً وأمنياً، أو أن استقرارها غير موثوق ويفتقد الى الاستمرارية.
وإذا كانت مشكلة اللبنانيين كبيرة في الدول المصنفة بأنها Least Developed Countries، أي البلدان الأقل نمواً، فإن ذلك لا يختصر رغبة اللبنانيين في العودة وخاصة الطلاب اللبنانيين وهي شريحة متواجدة بكثرة في دول أوروبا وخاصة إيطاليا وفرنسا.
بينما حصل نقاش في الأيام الاولى بعد موافقة الحكومة على عودة المغتربين لناحية هوية العائدين في ظل دعوات الى عودة جماعية لهم رفضها أركان في الحكومة، تم تحديد أولويات متعلقة بمن انتهت فترات إقاماتهم وبالطلاب وذوي الحاجات الإنسانية والكبار في السن وغيرهم في المناطق حيث استشرى الوباء، من دون توسيع الأمر ليشمل الجميع كون الأمر غير ممكن في ظل الإمكانات الحالية للدولة ناهيك عن عدم ضرورتها، كما يشير ديبلوماسيون متابعون لعملية العودة.
والحال أنه أمر شبيه بحالات أخرى، وإن أقل خطرا، برزت في الماضي القريب في إفريقيا على سبيل المثال لا الحصر، وستتخذ عملية الإجلاء هذه صفة مُتدرجة، فبعد ما يصفه البعض بفترة «ضياع» في الساعات الاولى بعد موافقة الحكومة على إعادة المغتربين، والتي تلاها حماس منقطع النظير لهذه العملية، تبدو الحكومة اليوم تقيس خطواتها عبر دراسة عميقة.
في كل الأحوال، دفع أداء الحكومة إلى إقرار أخصامها بنجاعة عملها وأهمهم معارضها الأول الرئيس سعد الحريري كما غيره، والواقع أن هؤلاء لم يكونوا بقادرين على تجاهل الأمر بمعزل عن إنتماءاتهم السياسية، في ظل الخطة الحكومية الاحترازية والاحترافية، من دون أن يعني ذلك أن ثغرات لم تحصل، وربما سيحتاج الأمر إلى بعض التعديلات على تجربة خيضت للمرة الأولى، والعنوان الأول يبقى «العودة الآمنة للمغتربين».