خلال أقلّ من 24 ساعة خرج رياض سلامة بتصريحين عن الاستقرار النقدي وثبات سعر صرف الليرة. يوم الثلاثاء الماضي، اجتمع سلامة مع المصارف و«بشّرها» بتحقيق ميزان المدفوعات فائضاً بقيمة 437 مليون دولار ونموّ الودائع بنسبة 2.33% حتى نهاية أيار 2018. تبيّن أن هذا الفائض اصطناعي، إذ إن ميزان المدفوعات الفعلي ينطوي على عجز بقيمة ملياري دولار، أي إن التدفقات النقدية الهاربة أكبر من الوافدة.
فيما تحدق بلبنان مخاطر مالية ونقدية واقتصادية، ثمة محاولات بائسة تُروّج لاستعادة وهم اسمه «المناعة اللبنانية». هذا الوهم ساد في السنوات الماضية، ولم ينحسر بعد، برغم كل المؤشرات الظاهرة للعيان التي تشير إلى دقّة الوضع وخطورته. حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، انطلاقاً من دوره «الحامي» للنموذج اللبناني، يحاول الإيحاء بأنه يملك «الإمكانات»، لكنه يسارع إلى الهمس في آذان المسؤولين عن خطورة الوضع. هكذا فعل قبل أشهر عند زيارته الرئيس سعد الحريري، وكرّرها قبل أيام عند الرئيس نبيه بري، وأمس عند رئيس الجمهورية ميشال عون.
في المقابل، لا ينصبّ اهتمام المصارف على تعزيز أرباحها الناتجة من «الهدايا» التي يوزّعها سلامة عبر هندساته المالية. في 2017 ازدادت أرباح مصارف «ألفا» التي تشكّل 90% من القطاع المصرفي بنسبة 6%، وبلغت 2.4 مليار دولار. ليس هناك أي شكّ في «وفاء» سلامة للمصارف، بل الشكوك في تلك الإمكانات!
الترويج الرخيص
أبلغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، جمعية المصارف، في اللقاء الشهري الأخير، أن الفائض المحقق في ميزان المدفوعات في نهاية أيار 2018 بقيمة 437 مليون دولار «يكفي لتوفير التمويل لاحتياجات الاقتصاد العام والخاص». وطمأنهم إلى أن «مصرف لبنان لديه الإمكانات، وهو مرتاح ليس فقط في المدى القصير، بل في الآجال الطويلة»، إلا أنه أثار موضوع الشائعات «التي بلغت حدّ التحريض أحياناً حول الأوضاع الاقتصادية والنقدية، خلافاً للواقع والمعطيات»، لكن تبيّن أن «السوق لم يتجاوب مع كل هذه الأجواء، والحملات لم تنل من الثقة لدى اللبنانيين بالاستقرار النقدي».
وفي الإطار نفسه، قال سلامة في لقائه الشهري مع المصارف إن «الحركة الاستباقية التي قام بها مصرف لبنان لرفع الفوائد بالتنسيق مع المصارف حمت السوق المصرفية من انعكاسات ارتفاع الفوائد عالمياً على المنطقة»، ولاحظ أن مستوى الفوائد على الليرة «ما زال أدنى وأفضل منه على العملات التركية والمصرية».
واشار إلى «تراجع وحيد في التسليفات التي زادت بمعدل متدنٍّ يبلغ 0.5% خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2018، علماً بأن الديون غير العاملة بلغت 3.42%». وأوضح أن سبب المشكلة يكمن في «القطاع العقاري والأنشطة المرتبطة به»، متمنياً على المصارف الإفادة من التعميم الذي يسمح باستيفاء الديون من خلال تملك عقارات يمكن المصارف تسييلها بعد 20 سنة.
المخاطر «همساً»!
كلام سلامة مع جمعية المصارف، جاء بعد أيام على لقائه رئيس مجلس النواب. يومها نقل المطلعون أن سلامة «وضع الرئيس بري في أجواء المخاطر التي تحيط بالأوضاع النقدية والمالية. هو قال إن الوضع تحت السيطرة، لكن المخاطر التي تحدّث عنها مثيرة للقلق». ولا يستبعد المطلعون أن يكون تحذير سلامة عن المخاطر، هو وراء النبرة القلقة التي يتحدّث فيها الرئيس ميشال عون أمام زواره عن المخاطر الاقتصادية والاجتماعية في الفترة المقبلة.
المشهد يتضح أكثر بعد التمعّن في المؤشرات التي ذكرها سلامة في لقائه الأخير مع المصارف. المؤشّر الأبرز هو ميزان المدفوعات الذي سجّل فائضاً بقيمة 437 مليون دولار في نهاية أيار 2017، وفق ما أعلن سلامة. هذا الرقم ليس مثيراً للريبة فحسب، بل يعدّ رقماً مضللاً، إذ إن آلية مصرف لبنان في احتساب ميزان المدفوعات تنصّ على أنه «ابتداءً من شهر تشرين الثاني 2017، يشمل صافي الموجودات الخارجية لمصرف لبنان، سندات دين الجمهورية اللبنانية المصدرة بعملات أجنبية (سندات يوروبوندز)».
يعني ذلك أن آلية الاحتساب تتضمن الزيادة الطارئة على موجودات مصرف لبنان الخارجية والناتجة من عمليتي مبادلة للسندات أولها، بين مصرف لبنان ووزارة المال بقيمة 5.5 مليارات دولار، وثانيها، بين مصرف لبنان والمصارف بقيمة 3 مليارات دولار. في المحصلة، ازدادت موجودات مصرف لبنان الخارجية بقيمة 2.5 مليار دولار، واحتسب هذا الرقم ضمن ميزان المدفوعات. وبما أن احتساب هذه السندات ضمن ميزان المدفوعات هو عبارة عن تلاعب بالأرقام، ويعكس واقعاً مغايراً لحقيقة التدفقات الرأسمالية بين الأموال التي دخلت إلى لبنان وتلك التي خرجت منه، فإن ميزان المدفوعات الفعلي هو العجز المسجّل قبل احتساب 2.5 مليار دولار من هذه السندات، أي إن الفائض الذي يتحدّث عنه سلامة هو عبارة عن عجز فعلي بقيمة ملياري دولار. وهذا العجز الكبير سببه الطلب على الدولار الناتج من ارتفاع أسعار المحروقات التي يستوردها لبنان.
مغالاة بكلفة باهظة
أما لجهة نموّ الودائع بمعدل 2.3% من مطلع 2018 حتى نهاية أيار المنصرم، فإن هذا المعدّل ليس كافياً لتغطية الزيادة التلقائية على الودائع الناتجة من الفوائد. أما احتساب المعدل على أساس السنة كلّها بالاستناد إلى نتيجة الأشهر الخمسة الاولى، فهو نوع من المغالاة في التقديرات المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية والسياسية، المحلية والإقليمية. فعلى سبيل المثال، إن تأخّر تأليف الحكومة سيرتد على الوضع النقدي، وفي حال أي تدهور سياسي أو أمني في لبنان أو حتى في المنطقة، ستكون هناك كلفة على لبنان.
على أي حال، إن مفاخرة سلامة بأن نموّ الودائع كافٍ لتمويل احتياجات الدولة والقطاع الخاص، إن لم يكن مبالغاً فيها، فهو ينطوي على كلفة باهظة على الاقتصاد. استمرار لبنان في اجتذاب الودائع من الخارج ليس أمراً يتطلب المباهاة، إذ إن الكلفة التي يدفعها لبنان لاجتذاب هذه الودائع باهظة جداً، وهي تزيد الورم المالي وتجعله قابلاً للانتفاخ أكثر وبوتيرة أسرع.
أرباح مصارف «ألفا» ارتفعت 6% في 2016 وبلغت 2.4 مليار دولار
الأفدح في كلام سلامة أمام المصارف، هو ذلك المتعلق بنمو التسليفات. هو يرى أن نموّ التسليف متدنٍّ، إلا أنه لا يرى في هذا الأمر مشكلة، علماً بأن هذا الأمر يعني أن التسليفات الجديدة لعام 2018 محدودة جداً، أي إن القطاعات الاقتصادية لا ترى مبرّراً للاستدانة لتطوير قدراتها التجارية والصناعة والزراعية والسياحية وسواها. هذا يعني أنه ليس هناك نموّ اقتصادي.
والحديث عن الديون غير العاملة لا يكفي ليعكس حقيقة الديون المشكوك في تحصيلها. فبحسب إحصاءات مصارف «ألفا» تبيّن أن قيمة الديون المشكوك في تحصيلها تصل إلى 8000 مليار ليرة، أي ما يعادل 5.3 مليارات دولار، وهي تمثّل أكثر من 7.5% من محفظة التسليفات للزبائن! أما الديون المشطوبة في عام 2017 فقد بلغت 1.7 مليار دولار!
الأرقام خطيرة بما فيه الكفاية للدلالة على الوضع الاقتصادي. لكن الأكثر دلالة هي النتائج المصرفية لمصارف «ألفا» التي تشير إلى ارتفاع في أرباح هذه الفئة من المصارف التي تمثّل غالبية القطاع، بأكثر من 6% لتبلغ 2.4 مليار دولار مقارنة مع 2.26 مليار في 2016.
هذه الأرقام مردها الهندسات التي يقوم بها مصرف لبنان والتي تحقق أرباحاً باهظة للمصارف. هذه الكلفة تأتي رغم أن المصارف اعترضت كثيراً على رفع ضريبة الفوائد إلى 7% وإلغاء الاستثناء السابق المتعلق بفائدة الإنتربنك والعمليات بين المصارف ومصرف لبنان. مزاعم المصارف عن ضرر لاحق بها لم تعد قائمة، بل هي تحصل على «الهدايا» الواحدة تلو الأخرى من مصرف لبنان، وهي تربح بسهولة فائقة المليارات سنوياً، لكنها لا تشبع. ولاء مصرف لبنان لها واضح، فيما ولاؤه لباقي فقراء الشعب اللبناني معدوم.
نصف حقيقة انخفاض سعر اليوروبوندز
قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إن سبب ارتفاع العائد على سندات اليوروبوندز اللبنانية المتداولة في الأسواق العالمية يعود إلى ارتفاع الفوائد الأميركية، مشيراً إلى وجود توقعات بمزيد من الارتفاع خلال الفترة المقبلة، إلا أنه لفت النظر إلى أن حجم العمليات ضئيل وبمبالغ صغيرة. على أرض الواقع، تبيّن أن أسعار سندات اليوروبوندز تعرضت لهزات متتالية خلال الأسابيع الأخيرة التي تلت تنفيذ مصرف لبنان عملية مبادلة السندات مع المصارف، وهذه الهزات دفعت أسعار السندات إلى مستويات قياسية لم تشهدها من قبل، إذ فقدت بعض السندات أكثر من 20% من سعرها، وباتت تشكّل خطراً على رؤوس أموال المصارف التي تحملها. لكن التفسير الذي ساقه سلامة عن الوضع الأميركي منقوص. فما يحصل في الحقيقة أن الاتجاه السائد ناتج من الحرب التجارية بين أميركا والصين. هذا الأمر دفع المتعاملين في السوق المالية إلى الاستثمار في الأدوات الأكثر أماناً، خوفاً من هزات ارتدادية لهذه الحرب التجارية، وبالتالي بدأوا يبيعون أو يتخلصون من الاستثمارات الأكثر هشاشة، وبينها سندات اليوروبوندز اللبنانية!