IMLebanon

التغلب اللبناني في سياق الغلبة السورية

الاستجابة للسجال المفتعل حول المسؤولية عن الذي جرى في عرسال عام 2014، هي استجابة لتشتيت الانتباه من قبل الذين أخذوا لبنان إلى سورية، وهؤلاء ذاتهم هم من اشتغل وفق خطته المسبقة في معركة الجرود الأخيرة. تشتيت الانتباه مناورة معروفة في العلوم العسكرية، والهدف من هذه المناورة جرّ جهد العدو أو الخصم إلى ميدان عمل قتالي ما، في حين أن الضربة الأساسية تكون جاهزة للتنفيذ في ميدان آخر.

سياسياً وليس عسكرياً الآن، يجب تركيز الجهود لنقاش سؤال ماذا عن لبنان بعد معركة الجرود الحدودية؟ وما السياق العام الذي حكم هذه المعركة، في امتداد التطورات الميدانية السورية؟ وكل ذلك من ضمن مسار تخفيض التصعيد الذي قادته الديبلوماسية الروسية، وحَظيَ، حيث حصل، على الموافقة الأميركية وعلى قدر من الرضى من قبل بعض القوى الإقليمية.

وفي تفصيل التراتبية السورية، ما زالت الولايات المتحدة تحتل الموقع الأول في إدارة اليوميات السورية، وسياستها التي تتراوح بين مدّ اللهجة وجزرها ليست ارتباكاً، بل هي ما قررته الإدارة الأميركية خلال عهد الرئيس السابق أوباما، وما زالت مستمرة بالأساسي من وجهتها مع الرئيس الأميركي الحالي. بعد هذه «الأوّلية» الأميركية، يأتي الموقع الروسي ثانياً. لقد لعب العامل الروسي دوره وفقاً لخطة مسبقة لديه، وهذه نالت تباعاً رضى العامل الأميركي، ولعل هذا الأخير تخفَّف من عبء «تجميع الآلة» السياسية السورية، فأحالها على اليد العاملة الروسية، واحتفظ هو بسّرها التكنولوجي العالي التقنية. هو توزيع سياسات بين عملاقي السياسة الدولية، تشكل سورية واحداً من ميادينه، والتقارب في هذا الميدان قد لا تُصرف نتائجه الإيجابية كلياً في ميدان آخر، كما يشتهي المخطط الروسي، أو كما يطمح إليه على صعيد تشكيل ثنائية قرار دولية.

ما ينطبق على الطرف الروسي وهو الأقوى في سورية، ينسحب على سائر الفرقاء الإقليميين، وهم الأقل قوة فوق الرقعة السورية، فإيران المطلوبة اليوم، كيد عاملة ميدانية، وأثناء المواجهات المباشرة، قد لا تكون مطلوبة بالقدر ذاته إذا ما سارت التسوية في سورية إلى خواتيمها. تركيا ذات الهواجس الكردية وغير الكردية، ليست بأحسن حال من إيران، بل لعلها في المرتبة الثالثة بعدها، وهذا ما يتناسب مع حجم تدخلها، ومع حجم سياستها التي لا تشبه سياسات «الهلال الشيعي» التي تقودها الاندفاعة الهجومية الإيرانية. أما المقعد العربي في سورية، فيأتي في الترتيب الأخير، وهو مقعد مهتز أصلاً، بسبب من التباينات بين أطرافه، وبسبب من النزاعات التي أثيرت في وجه بعض الدول العربية المتدخلة، بسياستها وبدعمها الديبلوماسي والمادي لأطراف من معادلة الصراع في سورية.

تلخيصاً للسياق السوري الحالي ولخلاصاته، يمكن القول إن المجموع الروسي والإيراني والنظام السوري، حقق تفوقاً على خصومه في اللحظة الحالية، هذا من دون الخوض مسبقاً في نقاش صورة وضع أطراف التجمع المتفوّق في الحرب، عندما يجلس إلى طاولة النقاش في أيام السلام.

وتلخيصاً للسياق اللبناني وخلاصاته، بعد المعركة ضد داعش، يمكن القول إن حزب الله ومن يؤازره لبنانياً، قد حقق تفوقاً على خصومه السياسيين في اللحظة الحالية، هذا ومن دون التطرق أيضاً إلى سؤال كيف سيترجم هذا التفوق في مسار الجمهورية اللبنانية. لكن الإشارة الأولية ممكنة إلى حقيقة تبدل أوزان الكتل الأهلية في ساحة صناعة القرار الوطني اللبناني العام. لقد زاد وزن الكتلة الشيعية السياسية بعدما وصلت إليه التطورات في الداخل اللبناني، وفي سورية، وفي شكل معاكس فقدت الكتلة السنية السياسية جزءاً من وزنها بفعل التطورات ذاتها. المسيحية السياسية خفَّ وزنها أكثر كيانياً، فهي المؤسِّسة، ستجد أنها فقدت الكثير من معناها التأسيسي، بفعل تبدل معطيات ما بعد التأسيس، هذه التي بلغت في الظروف الحالية مراحل تلامس تغيير بعض المعلومات التي كانت تحدد «الشخصية اللبنانية». بناءً على ما تقدم، لا بد من سؤال استشرافي، أو استباقي: هل ستكون التطورات هذه مدخلاً إلى نسف التوازنات الحالية، بما يؤسس لإدخال تغييرات جذرية على الصيغة اللبنانية؟ الجواب الآني يرفض ذلك، لكنه يشير إلى أن سلطة الشيعية السياسية المموهة ستظل هي الكامنة خلف صناعة السياسات، وستكون لها الكلمة الأعلى لدى النطق بها. وضعية «الخَلْف» تناسب الشيعية حالياً، فهي تكون حاكمة من دون مساءلة، ومتحكمة من دون قيود، وقادرة على رمي المسؤوليات على كاهل سواها، كما هو حاصل الآن في الشأن «الجرودي»، وكما حصل سابقاً في مناسبات سياسية عدة.

اختتاماً، ليست السياسة معطى جامداً، وحال اللوحة وإيحاءاتها اليوم، قد تكون عرضة لاستهداف من ذوي القرارات الدولية الكبرى، فهؤلاء يكتبون في العتم ما نراه لاحقاً، ودائماً بعد فوات الأوان.