Site icon IMLebanon

الطوفان الأقصى اللبنانيّ

 

الطوفان الأقصى الذي حـلّ بلبنان على مدى بعضِ العقود من الزمان، سببُـهُ الأهمّ هو أنَّ الجيل السياسي الذي تولّـى الحكم هو جيلٌ أُمّـي، لم يقرأ باسم ربِّـهِ الذي خلَق، ولم يقرأ باسم الشعب الذي خلَقَـهُ، وفـوق ذلك كان يمارس الأحكام وفق نظريّـة: من بعدي الطوفان.

منذ عقودٍ، لم يكن في «منظومة» أهـل السياسة والحكم أديبٌ واحدٌ، أو شاعرٌ واحـدٌ، أو عالِـمٌ واحد، ولم يكنْ لأيٍّ منهم مؤلَّفٌ واحدٌ أوْ كتاب.

 

المثقفون، يستشرفون المستقبل، يقتبسون الخبرةَ من مطالعاتِهمْ كتُبَ العظماء، ومسيرةَ الممالك وسيرةَ الملوك والرؤساء، فيأخذون منها العِبَـر، لينبِّهوا الحكَّام إلى مخاطر الأيام.

 

«تنبَّـهوا، واستفيقوا أيها العرَبُ».

 

هو مطلعُ قصيدة للشاعر اللبناني ابراهيم اليازجي، سنة 1868، منبّهاً بها إلى مغبّـة الطغيان العثماني، ومنذ ذلك التاريخ، ولأنّ العرب لا يقرأون، لم يتنبّهوا، ولم يستفيقوا…

 

«لكم لبنانُكم ولـي لبناني».

 

مقالٌ من كتاب «البدائع والطرائف» كتبـه جبران خليل جبران سنة 1923، ومنذ جبران الأول حتى جبران الثاني، لا يزال في لبنان من يقول: لي لبناني ولكم لبنانكم.

وحين كان لبنان ينشر الحضارة والتمدّن ويتغنّى بالمجـد، كان لبنان عند الشاعر إيليا أبو ماضي: «وطـنَ النجوم» .

 

وحين تخلّف لبنان وتحكّمت فيه أميّـةُ الجهل: أصبح وطـنَ «الكهرباء»..

 

وحين سقط لبنان في تجربة الحرب سنة 1975 قالت شاعرة جبل عامل: «زهـرة الحـرّ»:

لنا وطـنٌ ذبَحْناهُ       وأحْرقْنا بقاياهُ

ولمْ يسلَمْ بهِ شيءٌ     سوى ما قدَّر اللهُ

فهيَّا ندفنِ القتلى      أمامَ بيوتِنا الثكْلى

وندفن في الترابِ    المستباح الحقَّ والعدلا

 

ولأنّ لبنان اليوم ليس لبنان الحـرّ يتخبّط في غياهب الغباء والأهواء، فإننا نخشى أنْ نسقط في تجربـةِ حـربٍ أهليّةٍ أخرى.

 

بين عظَمةِ الثقافة، وخساسة السياسة فوارقُ وتعارض، وإنّ ألـدَّ أعـداء أهلِ الحكم الأغبياء هـمُ المثقفون… الثقافةُ عندهم جرمٌ يعاقب عليه القانون.

 

لبنان، عند إيليا أبو ماضي وزهرة جبل عامل وعبقري جبل بشري، هو وطـنُ النجوم والإشعاع الحضاري، هو لبنانُنا ولبنانُكُمْ، لا ينفصم بفعل مذهبيّـةِ الإنتماءات وازدواجية الولاءات، يستطيع بالفكر النيّـر أن يحـوّل التناقضات إلى طاقة بنّاءة تتكامل في حركة إيجابية لتأمين الإستقرار والفرص الفضلى للحياة.

 

ولبنان في الجهل العقلي والغيبوبة الوطنية قد يتحوّل إلى نصفين: لي لبناني ولكمْ لبنانكم: نصفٍ مقابل نصف آخر، غيـرِ مندمجَيْنِ في كيانيّـةٍ واحدة، وتتحوّل المفارقة إلى مواجهة بين مضادَّينِ وطنياً، متعارضَْينِ سياسياً، متنافريْنِ مذهبيّاً.

 

أنظروا إلى العالم الأممي واحكموا… حدّدوا السبب بين عالـمٍ يتطور فكرياً وحضارياً ويعيش في استقرار وازدهار، وعالمٍ متخلّفٍ تتفجّر فيه طاقات الشعوب الحيويّة إلى تناقضات محمومـةٍ محكومةٍ بالرعب الظاهر والرعب المكبوت.

 

في السنوات الأخيرة من حياة جبران خليل جبران تعرّض لضغط كبير ليعود إلى لبنان ويكون فيه الزعيم الوطني فقال: «إنْ ذهبتُ إلى لبنان وكتاب النبيّ في يـدي هل نعيش على ضـوء هذا الكتاب(1)»…؟

نعم… إن إنقاذ لبنان بات يحتاج إلى نبـيّ… أيْ إلى عقل.

هو «المعرّي» صاحب «الفلسفة العلائية» الذي يقول: «إنّ كـلَّ عقلٍ نبـيّ».

 

1 – كتاب برباره يونغ – هذا الرجل من لبنان ص. 165 .