إصرار “سلطوي” على “تأميم” دولارات المودعين الصغار
أمور كثيرة أعاد حاكم المصرف المركزي رياض سلامة سردها على مسامع جمهور المصارف… وما أكثرهم. أخبار تحاليل ومعلومات، بعضها يصدَّق، كالحديث عن فساد الطبقة الحاكمة وضرورة توفّر الدعم الدولي لإعادة نهوض لبنان، وبعضها مثير للريبة مما يحضَّر، كإعطائه المصارف الضوء الأخضر لدفع الودائع بالليرة اللبنانية، وبعضها خطير، جداً مرّ مرور الكرام كقوله “بعد إقفال المصارف تغيّرت الأمور وتحوّلنا من إقتصاد يتّكل على المصارف إلى cash Economy”.
التخلّص من عمليات الدفع نقداً Cash، وتشجيع وسائل الدفع الإلكتروني، تحوّل من غاية إلى هدف بحد ذاته في أغلبية الدول، لِما له من إنعكاسات إيجابية على تطوير الإقتصادات.
وبالفعل، يلفت أحد رجال الأعمال إلى أن “الأنظمة النقدية حول العالم تتجه إلى اعتماد سياسة “العصا والجزرة”، لإجبار المواطنين على تمرير كل عملياتهم المالية في شبكة المصارف”، ويضيف ممازحاً “حتى التنفّس يجب أن يمرّ بالبنك”.
على خُطى اليونان
لبنان الذي كان سبّاقاً في الإعتماد على القطاع المصرفي – وهو ما يظهره حجم تدخل هذا القطاع رقمياً وعددياً في الإقتصاد – وعلى استعمال وسائل الدفع الإلكتروني، بدأ اليوم يشهد تراجعاً دراماتيكياً، لدرجة ان المصارف تحوّلت إلى مجرّد عدّادات أسبوعية لسحب الاموال من الخزائن.
هذا الواقع المستجدّ بحسب أحد رجال الأعمال الذي يعمل بين لبنان وأوروبا “يشبه كثيراً ما يحدث في اليونان”. وطبقاً لمشاهداته من أرض الواقع فإن “اليونانيين يحجمون عن التعامل بشكل كامل مع المصارف، لدرجة ستضطر معها السلطات النقدية إلى معاودة تطبيق (الكابيتال كونترول) لان المودعين يُخرجون أموالهم من البنوك ولا يُدخلون ولو حتى يورو واحداً اليها”. هذا وما زالت الصرّافات الآلية في أثينا تشهد صفوفاً طويلة لزبائن ومتعاملين مع المصارف ينتظرون ساعات من أجل سحب 20 يورو فقط. كما تسجّل كل المصارف تراجعاً هائلاً في تسديد المقترضين لسنداتهم ودفعاتهم الشهرية لدرجة أن نسبة كبيرة من المواطنين وضعوا على Black list”. وعن توصيفه للأزمة اللبنانية بالمقارنة مع ما يحصل في اليونان يوضح أن “مرحلتنا في لبنان تشبه من دخل السينما وبدأ تناول الفشار، إلا ان الفيلم لم يبدأ بعد”.
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني يقول إن “الطريقة التي تتصرّف بها المصارف لا تبشّر بالخير. فهي تقبض على أموال المودعين المقيّمة بالدولار، والتي تشكّل 75 في المئة من مجمل الودائع في القطاع المصرفي، وتنفّذ Hair Cut أعمى بنسبة توازي تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، والتي أصبحت اليوم أكثر من 40 في المئة، ولديها توجّه في المستقبل للتوقف عن دفع الودائع بالعملات الأجنبية وتسديدها بالليرة اللبنانية”.
هذه العوامل “أفقدت ثقة المواطنين بالمصارف ودفعتهم إلى سحب ما يستطيعون من ودائعهم بالعملات الأجنبية قبل أن تضع المصارف يدها عليها”، يتابع مارديني. بالإضافة الى إنعدام ثقة المواطنين بالمصارف فإن توقّف البنوك عن ممارسة دورها الاساسي الذي يتمثّل في تنفيذ التحويلات وفتح الإعتمادات ألغى الحاجة الى التعامل معها ووضع الأموال فيها.
الأموال عاودت “النوم”
حقّ المواطنين في حماية أنفسهم من الإجراءات المصرفية، وتجنّب نتائج تدهور سعر الصرف، وانتشار الحملات المحرّضة على عدم دفع أقساط الديون للمصارف… تشكل لكمات متتالية لوجه الإقتصاد. وبحسب مارديني فإن “مهمّة المصرف الأساسية هي تحويل الإدّخارات إلى استثمارات، مهمة تُعيد الحياة إلى “الأموال النائمة” من خلال إعادة إقراضها لتنفيذ المشاريع وتطوير الأعمال، وبالتالي عندما “تنام الأموال تحت المخدات” تفقد المصارف الرأسمال الضروري لتمويل القروض والمشاريع، وعندها تنعدم الإستثمارات ويتأثر الإقتصاد بشكل كبير”.
التناقض الصارخ بين حقوق المودعين من جهة ومصلحة الإقتصاد من جهة أخرى، والتي ستعود وتنعكس سلباً على عشرات آلاف اللبنانيين في المستقبل القريب، يترافق مع إصرار السلطتين السياسية والنقدية على انتهاج السلوك الخاطئ الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه. فعلى رغم صعوبة المرحلة ودقّتها اعتمد مشروع موازنة 2020 لتخفيض العجز على الإستدانة من المصارف بفائدة صفر أو واحد في المئة، وبمعنى آخر المزيد من الإستيلاء على اموال المودعين. أما الغطاء لهذه الإستراتيجية الخبيثة فسيكون تحويل ودائع الدولار إلى ليرة وتحقيق وفر بمليارات الدولارات على حساب صغار المودعين وأصحاب التعويضات البسيطة وكل من وثق يوماً بالدولة والمصارف.