إن الشروط التي ستخضع لها دورة التراخيص الأولى الخاصّة باستشكاف النفط والغاز الطبيعي في المياه اللبنانيّة، ستُقيل الدولة حكماً من مهماتها لناحية إدارة هذا القطاع المُثمر أولاً، وإنتاج الوقود الأحفوري ثانياً، بحيث سينحصر دورها بفرض رقابة “شكليّة” على عمل الشركات.
هذا ما خلصت إليه الندوة التي عُقدت، أول من أمس، في الجامعة الأميركيّة في بيروت، من تنظيم “النادي العلماني” تحت عنوان “مستقبل قطاع النفط والغاز اللبناني: مخاوف وحلول”.
الندوة التي شارك فيها كلّ من: خبير النفط نقولا سركيس، وخبيرة النفط والغاز في الشرق الأوسط وأفريقيا الشماليّة لوري هايتايان، والزميل حبيب معلوف، انقسمت إلى ثلاثة محاور: 1- تعريف المنظومة التشريعيّة والماليّة لهذا القطاع. 2 التجاوزات التي حكمت إصدار التشريعات والمراسيم الخاصّة بالقطاع، والمخاوف المترتبة عن الأنشطة الاستثماريّة المقبلة. 3- المخاطر البيئيّة المترتبة عن استشكاف النفط.
غابت الحلول وطغت المخاوف، وانتهت الندوة بسجال أججته هايتايان بدفاعها عن المسارات التي تسلكها الدولة، ليردّ عليها مدير الجلسة بالقول “لو كان (وزير الطاقة سيزار) أبي خليل معنا لقال الكلام نفسه”.
شرحت هايتايان المنظومة القانونيّة التي تحكم قطاع الغاز والنفط اللبناني، ووصفتها بـ”الجيّدة”، وتحدّثت عن حلقة خاضعة لما سمته “رقابة المجتمع المدني”! معتقدة بوجود شفافيّة فرضتها القوانين والاتفاقيّات التي ترعى هذا القطاع، “ولو أنها محدودة بغياب المحاسبة وفق النموذج اللبناني”. وتعدّد هايتايان هذه القوانين بدءاً من “حق الوصول إلى المعلومات” الذي لحظ قطاع الغاز لناحية إلزاميّة نشر العقود، مروراً بمشروع قانون تعزيز الشفافيّة الذي سيسمح عند إقراره بالكشف عن ملكيّة الانتفاع، أي من يقف وراء الشركات العاملة، وصولاً إلى إعلان لبنان الانضمام إلى “مبادرة الشفافيّة للصناعات الاستخراجيّة”، والتي اعتبرت “إنجازاً ليس بالسهل تحقيقه، ويجب التمسّك به، بوصفه سلاحاً إضافياً، كونه بمثابة إعلان العمل مع المجتمع المدني، واعترافاً بأحقيّة تمثيله داخل مجلس أصحاب المصلحة، لإعداد التقارير حول التراخيص والعقود وتحصيل العائدات وتوزيعها”.
الدولة استقالت من مهماتها بحصر دورها بالمراقب في مجلس الإدارة
هذه الإيجابيّة التي عكستها هايتايان، دحضها سركيس بعرضه مساراً طويلاً من الأخطاء والتدابير التي وصفها بـ”المريبة” ورافقت ولادة المنظومة النفطيّة اللبنانيّة. يقول سركيس إن “التدابير التي اتخذت لتهيئة القطاع بدأت خاطئة، وتحديداً منذ عام 2007 عند ترسيم الحدود مع قبرص والتنازل خطأً عن 830 كيلومتراً مربعاً من المنطقة الاقتصاديّة الخالصة للبنان من دون أي مساءلة، مروراً بتعيين أشخاص في هيئة إدارة قطاع النفط وفق مبدأ المحاصصة من دون أن يكونوا اختصاصيين في هذا المجال، وصولاً إلى إقرار مراسيم تقسيم البلوكات البحريّة ونموذج اتفاقيّة الاستشكاف غير المحدّدة مدّتها، في غضون 48 ساعة من دون أن يتسنّى للوزراء قراءتها والاطلاع عليها”، متسائلاً عن “هوية كاتب المراسيم التي تتضمّن شروطاً فنيّة معقّدة، وصيغت في وقت خيالي”، غامزاً من قناة الشركات العالميّة. يرتكز سركيس على هذه الوقائع للإشارة إلى أن الدولة استقالت من مهماتها عندما حصرت دورها بـ”مراقب واحد يُعيّن في مجلس إدارة الشركات، بدلاً من أن تكون شريكاً فعلياً ونداً فاعلاً في الإدارة والإنتاج”، وهو ما وصفه بـ”العودة المقنّعة إلى نظام الامتياز الذي نبذته الدول النفطيّة منذ ستينيات القرن الماضي، حتى في الدول النامية مثل الجزائر وإيران”.
لا تتوقّف المخاوف عند حدود سيطرة الشركات العالميّة على القطاع النفطي اللبناني وحرمان اللبنانيين من ثروتهم الواعدة، المُهدّدة بأن تتحوّل إلى لعنة، كما أشار سركيس، بل تنسحب إلى الآثار البيئيّة المترتبة عن النشاطات البتروليّة، والمُتفلتة من أي ضوابط، بحسب معلوف، باعتبار أن المنظومة الوحيدة التي ترعى البيئة البحريّة في حوض المتوسط هي اتفاقيّة برشلونة التي لا تلحظ في بنودها الآثار المترتبة عن أي نشاط بترولي. يشرح معلوف الثغَر البيئيّة، مشيراً إلى “غياب أي استراتيجيّة للتنمية المستدامة، وابتعاد السياسة النفطيّة اللبنانيّة عن الاتجاهات العالميّة التي بدأت بنبذ الوقود الأحفوري لمصلحة الاعتماد على الطاقة البديلة، والافتقار إلى الدراسات البيئيّة الاستباقيّة عن التنوّع الإيكولوجي في المتوسط التي تسمح بتحديد نظام التقاضي مع هذه الشركات وتحسين شروطه لمصلحة الدولة اللبنانيّة، الضعيفة أمام القطاع الخاصّ، فكيف بحالها أمام شركات عالميّة عملاقة، نفوذها أكبر من الدول الكبرى”، معتبراً أن “التنقيب عن النفط هو خيار ديكتاتوري، فرض استراتيجيات بعيدة المدى على الأجيال القادمة التي من حقّها علينا أن نحافظ على البيئة التي ستعيش فيها، وذلك بناءً على أفكار العصر الحالي حول الرفاهية والتقدّم”.