من الصعوبة بمكان تقديم صورة وافية عن حجم الانهيارات التي تضرب لبنان على شتى الصعد المالية والاقتصادية والاجتماعية والصحية وتداعياتها على معيشة مواطنيه، بل على قدرتهم على الاستمرار. بات اللبناني الأكثر كآبة بين شعوب الأرض، وأصبحت معدلات الفقر، الناجمة عن منهبة مدبرة، تفوق نصف تعداد السكان وتتسع بوتيرة لم يعرفها البلد منذ إعلان لبنان الكبير قبل 100 سنة، ويتوقع باحثون مستقلون أن المجاعة قد تلامس تلك التي ضربت جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى وقضت على نصف سكانه!
اليوم مع اختطاف الدولة بالفساد والسلاح، وتصدع المنظومة السياسية التي تحكمت بالبلد منذ 3 عقود، وبروز عجزها الكامل عن أي مبادرة أو خطوة قد تبطئ الانهيار أو تفرمل تحلل السلطة، تبرز إلى العيان وجوه من الأزمة الخانقة، وهي المتمثلة في الاستنزاف الخطير لرأس المال البشري، مع اتساع هجرة الأدمغة، ولا سيما الشباب المقفلة بوجوههم الأبواب، وتتعمق الأزمة أكثر مع بدء هجرة اليد العاملة الماهرة!
إنها هجرة قسرية ليس مستساغاً من أي جهة «اللعي» عن رغبة لبنانية بـ«الانتشار»، وفق التسمية التي روجت لها الدبلوماسية اللبنانية! فكل من بوسعه الحصول على تأشيرة «يهج» هرباً من كارثة تسببت فيها العصارة الصافية لتحكم تحالف ميليشيات السلاح والمال بالبلد، الذي منع قيام الدولة واستبدل بها مؤسسات تم اقتطاعها والتعامل معها كحصص لهذه الفئة الطائفية أو تلك، وسُميت واحدة وزارة دسمة وثانية مصلحة مستقلة وثالثة مجالس أو صناديق أو هيئات… واستند هذا التحالف إلى تبعيته لخارجٍ وفّر له الحماية!
استمرت هذه المنظومة السياسية متحكمة بالبلد رغم نزول مليوني لبناني إلى الساحات، وتستمر في التجبر مستندة إلى تغول دويلة «حزب الله» التي باتت الراعية والحامية لنظام المحاصصة الفاسد، ويتسع التنكر لحقوق المواطنين وكراماتهم، والتعامي عن الأسباب التي جمعت أكثرية اللبنانيين تحت لواء ثورة تشرين. هذا في حين أن منحى الثورة الغالب، اعتبر سقوط حكومة الحريري دفعة على الحساب، ينبغي أن يستكمل بإسقاط المجلس النيابي الذي سحبت منه الشرعية الشعبية. وتحول المطلب إلى القضية المحورية فكان منع انعقاد الجلسات، وتركزت المظاهرات حول مداخله فتعرض المتظاهرون لعنف مفرط من «ميليشيا» مجلس النواب التي لا تتبع لأي هرمية عسكرية! وتسبب إجرامها في إفقاء عيون العشرات من الثوار!
وبعد جريمة الحرب التي تعرضت لها بيروت في تفجير 4 أغسطس (آب)، وما نجم عنه من إبادة جماعية وترميد أحياء كاملة من العاصمة، تجددت المطالبة بإقالة مجلس النواب، الجهة الرئيسية التي قوننت مشروعات النهب والإفقار. استقال 8 نواب، هم على العموم من المستقلين، ونجح التقاء المصالح، وربما الوعود، في منع استقالات أخرى، ولا يغيب عن الذهن حالة الابتهاج التي عبر عنها حسن نصر الله بقوله إن الدعوات لاستقالة النواب لم تنجح، وكالعادة ألقى تهمة التحريض على الخارج (…) ومعروف أن هذا المجلس كان قد انتخب وفق قانون الصوت التفضيلي المذهبي المتصادم مع الدستور، ما زوّر إرادة الناخبين. وفي حينه امتدح النظام الإيراني «الإنجاز» لأنه أمّن سيطرة «حزب الله» على الأكثرية المطلقة!
وفق الدستور، فإن النظام السياسي اللبناني نظام برلماني، أي أن البرلمان هو الجهة التمثيلية الحقيقية، تمنحه الانتخابات وكالة شرعية بأن ينوب عن الناس في حمل همومهم وقضاياهم وباسمهم يمنح الحكومات الثقة أو يحجبها، هذا في المبدأ… لكن بمجرد التمعن في التركيبة والأداء، كما كل المجالس النيابية منذ برلمان العام 1992، نجد أن الأمر مغاير، والواقع نقيض للمبدأ. لذلك تركز ضغط المظاهرات ضده، فكان أن تم عزل المنطقة المحيطة بالمجلس في وسط بيروت، فتم التحصين، بعد الحواجز الحديدية والأسلاك الشائكة، بجدرانٍ من الإسمنت المسلح، فانعزل عن الناس ولم يعد ممكناً الاحتكاك المباشر، واستحدثت للنواب ممرات آمنة (…) وهكذا لم تجد هموم الناس سبيلاً إلى المجلس، الذي لم يكلف نفسه عناء تنظيم جلسة لمناقشة أي جانب من جوانب الانهيارات المتلاحقة، كما لم يتداع للبحث في أضخم تفجير كيماوي عرفه العالم استهدف العاصمة، ولم يشكل لجنة لتقصي ما جرى ومسبباته؟ وكيف يتم تخزين وسادة الموت تلك كل هذه السنوات؟ وما نجم عن الأمر من إبادة جماعية وجرح نحو 7 آلاف وتهجير نحو 300 ألف مواطن!
يحاول البرلمان اللبناني، أن يوحي أنه ورشة تدرس وتضع المشروعات وتصدر القوانين والتشريعات، وربما يظن المتابع من الخارج أن الدور التشريعي في أبهى الصور. لكن الواقع يظهر العكس تماماً. إن أبرز «الإنجازات» قوانين محصورة بما لا يؤثر على مصالح الفرقاء الأساسيين، أعمدة منظومة الحكم وهم 6 إلى 7 أطراف، كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد ذكر أن نحو 10 أشخاص هم من يمسك بكل المنظومة السياسية، وبعبارة أخرى هي على الأغلب قوانين تشرع الفساد!
آخر الأمثلة قدمته الجلسة النيابية الأخيرة التي انعقدت تحت عنوان ضرورة انضمام المجلس إلى الحكومة في السير بـ«التدقيق الجنائي»، بعد سخرية سقوط التحقيق في حسابات المصرف المركزي، واعتذار شركة «ألفاريز ومارسال» عن عدم متابعة المهمة. هنا تجدر الإشارة إلى أن كبريات الصحف العالمية مثل «وول ستريت جورنال» و«لوموند» تحدثت عن رفض مصرف لبنان التدقيق الخارجي وأنه في موقفه مدعوم من جهات سياسية حكومية تكاد تشمل كل الأطراف، فإذا بالمجلس النيابي يعلن أن التدقيق سيشمل كل الوزارات والمؤسسات، وعوض أن يقوم بدوره بإصدار القانون الذي يعدل القوانين السارية، أصدر قراراً عاماً لا قيمة قانونية له ولا يحمل صفة إلزام لجهة رفع «السرية المصرفية» وتعديل «النقد والتسليف»، وابتهج الجميع لهذه البدعة التي تغطي الفساد والمرتكبين! لأن التدقيق الجنائي كان مقدراً له أن يبين كيف توزعت مليارات الهندسات المالية، وكيف تم تهريب الودائع وسبل تهرب «حزب الله» من العقوبات وغيرها وغيرها…
لا أهمية نيابية لدرس تحولات المنطقة وانهيارات الداخل، بل الأولوية هي لدرس قانون للانتخاب. طروحات مناقضة للدستور وافتعال صدامات وتهديد بمشروع يفرض الهيمنة العددية، ما يعني خلق كل الأعذار للخلاف، والبناء على التمادي مستقبلاً في الخلاف، للوصول إلى مرحلة يكون متاحاً فيها التمديد للمجلس المذكور. هذا هو السيناريو، والسوابق لا تحصى، وآخرها أن برلمان العام 2009 مُدد له تعسفاً 5 سنوات!
القلق يسود منظومة الحكم وهي تتخبط عاجزة عن تأليف حكومة. البلد مشطور بين أكثرية متضررة ومنظومة الحكم التي سلمت «حزب الله» القرار في صفقة العام 2016. كل الطبقة السياسية متهمة من الداخل والخارج، وسيف العقوبات الأميركية شغال، ولا بديل عن مرحلة انتقالية وحكومة مستقلين بكاملها تسمح للبنانيين بالتقاط الأنفاس، لذلك تقدم خطر التمديد للمجلس النيابي وهو أشبه بـ«لويا جيرغا» لبنان! وفاقم هذا الاتجاه الرسالة التي وجهتها الانتخابات الطلابية التي قالت إن مناخ ثورة تشرين ليس حدثاً ظرفياً!