IMLebanon

النظام السياسي اللبناني على درب البائدين!

 

يقترِفُ النظام السياسي اللبناني الأخطاء البنيوية نفسها، التي أدّت الى سلسلة الثورات الفرنسية والانكليزية والروسية، وأسقطت ديكتاتوريات تاريخية، كانت تُمسك بالسياسة والاقتصاد والأنفاس، فاستفاد بدلاؤها من هذه الانهيارات، مؤسسين أنظمة سياسية مدنية أعادت «الدين» الى عبادة الله فقط، وعمّمت ازدهاراً اقتصادياً ومساواة اجتماعية وعدالة سياسية، هي اليوم تحكم الغرب واليابان وبعض الأنحاء الأُخرى من العالم.

 

صحيح انّ هذه المعادلة الجديدة تواكبت مع أضخم حركة استعمار غربي في التاريخ، استحوذ على ثروات العالم الثالث، معمماً العلم والصناعة في بلدانه الأصلية، فجاء الازدهار ثمرة تعميم الديموقراطية في الداخل والاستعمار في الخارج، وهذه أغرب المعادلات.

 

أما لجهة النظام السياسي اللبناني، فأمسك بدوره بالسياسة والاقتصاد والطوائف الدينية والاحتماء بالخارج والإعلام، معوّلاً على النزاعات في الاقليم للاستمرار.

 

فتصبح المذاهب ضرورة لتأمين بنية تحشيدية للزعماء، وهؤلاء يتماهون مع الخارج بالسياسة واللون الديني، ملتزمين بسياسات هذا الخارج في كل مناحيها، حتى وصل الامر الى أنّ سياسيين لبنانيين باتوا يؤيّدون بقاء النازحين في لبنان لتلبية مطالب أميركية وخليجية في هذا الشأن، تريد تطويق الدولة السورية.

 

كذلك، فإنّ سياسيين آخرين من المقلب الآخر يؤيّدون دعم الرئيس الفنزويلي مادورو، وذلك لمجرد الاصطفاف الى جانب تغطياتهم الاقليمية وتحالفاتها، وكانوا قبل شهرين فقط يمتدحون سلطان عُمان لحياديته في النزاع الإيراني ـ السعودي، حتى تبيّن أخيراً انّ عُمان تقيم علاقات تطبيعية مع اسرائيل منذ سنوات عدة، ويمتلك نظامها مواصفات الدكتاتوريات التاريخية المطلقة نفسها منذ تأسيسه.

 

ما هي مميزات النظام اللبناني؟

ينتحل صفة ديموقراطية فيها انتخابات شعبية للمجلس النيابي، وهذا بدوره ينتج الحكومات ورئاسة الجمهورية، فيستجيب شكلاً للممارسات الديموقراطية لكنه يخترع آليات لتجريدها من محتواها. فتسقط الديموقراطية عند عتبة الالتزام بالتحاصصات الطائفية والمذهبية.

 

وكان يمكن السكوت على مضض على هذه التفاهمات الطائفية لو كانت تؤدي فعلاً الى استيلاد قوى صاعدة من مذاهبها وتجسّد الحرص على الدولة والمجتمع. لكن العلاقة بين اصحاب الرساميل والاقطاع والدين والخارج والاعلام، تجعل مستحيلاً بروز قوى مستقلة ضمن طوائفها لا توالي «الخارج» وتلتزم معايير المذهب.

 

للذكر فقط، فإنّ هذه الموالاة للإقليم والدين تجعل فئات النظام الطائفي تمسك بالدولة على مستوى التوظيف والإنفاق الاقتصادي، فيتحول الفساد أساساً الأداء الصحيح، فيما النزاهة استثناء.

 

وبذلك يخنقُ النظام السياسي الدولة مزهقاً روح المجتمع بضرائب وديون وتراكم نفايات وأمن سائب وكسارات ومعامل وجمارك تعمل لحساب الزعامات وقياداتها المباشرة مع أملاك بحرية يسطو عليها السياسيون، عبر وكلاء وصفقات الالتزامات وجمعيات تحسين نسل الجواد العربي.

 

فتسأل وزيراً، كان قبل سنة بائساً، من أين لك هذه الاملاك، أهي من عند الله أم تغطية من ربّك أنت؟ والطريف، انّ تجفيف موارد الدولة يتمُ علناً من دون اي مساءلة او حساب.

 

فالحمايات الخارجية والدينية ترفض المساس بالمرتبطين بها، وهؤلاء يعرفون مدى حاجة هذا الخارج اليهم، فيبالغون في استنزاف الدولة اللبنانية.

هناك إضافات تثير العجب وهي انّ الإصلاح عمل يحتاجُ الى مصلحين يمتلكون برامج تغييرية يعملون من اجل تطبيقها. فكيف يمكن لسياسيين فاسدين يستنزفون الدولة أن يقرّوا موازنات اصلاحية؟ فهذه اذا حدثت، واحدة من معجزات العصر، والدليل انّ الموازنة الحالية ليست اكثر من تحايل لمنع الانفجار الاجتماعي، وضعتها فئات النظام الطائفي التي تتحمّل وزر الدين العام. فكيف يضحكون على الناس بزيادة 2 في المئة على البضائع المستوردة؟

 

متذرعين بحماية الصناعة الوطنية، وهم يعرفون انّ البضائع اللبنانية تصيب جزءاً بسيطاً من حاجات البلاد وبعض مكوناتها مستورد. لذلك، فهذا القرار يستنزف قدرات الطبقات الفقيرة والوسطى حصرياً، تماماً كفرض ضريبة 1000 ليرة على نَفَس النرجيلة ودعم وزارة المهجرين بموازنة مقدارها 40 مليار ليرة. فهل هناك مهجّرون بعد انتهاء الحرب الداخلية منذ أربعة عقود؟ فهذه موازنة ماري انطوانيت التي ردّت على من قال لها بعدم وجود خبز في الاسواق الفرنسية، بدعوة المواطنين الى شراء «البسكويت».

 

فيبدو أنّ المهجرين لم ينتهوا من الجبل ووادي ابو جميل بعد، ولم تستنفد هذه الطبقة السياسية قدرتها على المناورة والإمساك بتلابيب المال العام، وتعتقد انّ حمايتها لا تزال قوية وهي كالآتي:

 

– المذاهب بقيادتها الدينية، وهذا واضح في وجود مفتٍ أو مطران أو شيخ عقل أو كاردينال، الى جانب كل قيادة سياسية حسب لونها.

 

– الدولة بإمكاناتها على التوظيف وتوفير زبائنية كبيرة، تقبل بالحد الادنى من الرواتب وتشكّل ميليشيا للدفاع عن الزعماء. فمن ينسى الهجوم الذي شنّه شبان على متظاهرين، كانوا يطالبون بالاصلاح الاجتماعي في ساحات رياض الصلح والبلد. كما انّ الدولة ايضاً «محلب» للزعماء، يسيطرون عبر نظام التحاصص على القسم الأكبر من المال العام.

 

– الخارج او الاقليم الذي يغطي ويموّل الزعماء المرتبطين به وطوائفهم، متدخّلاً في ادنى تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية.

أما الاعلام، فله دور في تقديم صورة نمطية «مجاهدة» عن الزعماء وزوجاتهم، بما يزيد من مكانتهم الاجتماعية.

 

فهل تستطيع هذه الوسائل تحقيق الحمايات الى أمد طويل؟ أثبتت الثورات التاريخية انّ الرغيف اقوى من الفتن الطائفية والمذهبية والاعلام والفساد والتدخّل الخارجي، وهذه حقائق تاريخية تؤكّدها الثورات في التاريخ.

 

لذلك، فإنّ تزامن التراجع الاقتصادي للطبقات الوسطى والفقيرة مع انحسار امكانية العمل في الخارج، يرفعان من مستوى الإنسداد الاجتماعي ويدفعان نحو إنفجارٍ كبير، لن يستطيع سلاحُ المذهبية ضبطه كما يحدث حتى الآن.

 

فما يفعله هذا النظام السياسي لا يصدّقُه حتى المجانين. فهل هذه موازنة اصلاحية، هي التي تواصل «سرقة الناس» بإسلوب النشالين وخفة اليد؟ ألم يكن مطلوباً تسليم عملية اعدادها لاصلاحيين اقتصاديين يعرفون أكثر من الجمع والطرح ولعبة «السبع ورقات»، ويجيدون وضع موازنات تعرف أن مأساة البلاد هي في هذه الطبقة التي تواصل استنزاف المال العام بقوة الدين والاقليم والميليشيات؟..