في وقت ما عملت في مؤسسة مختلطة، أي يعمل فيها عدد من الجنسيات العربية، وكان أحد الشباب الكويتيين قليل الخبرة في المهنة التي نعمل بها، فأردت من الإخوة اللبنانيين في المؤسسة أن يقوموا بتدريبه، وجاءني يوما شاكيا، قال: «هؤلاء (ويقصد زملاءه اللبنانيين) دائما ما يقولون لي إني معطر مع أني لا أستخدم أي نوع من العطور». فهمت أن صاحبنا التبس عليه الأمر بين «معتر» و«معطر» أو هكذا سمعها، والأولى وإن كانت عربية، تعني (باللهجة اللبنانية) ليس فقيرا فقط، بل تعني فقيرا وفيه شيء من الغفلة. ولا أحسب اليوم أحدا أكثر «تمعترا»، إن صح التعبير، من المواطن اللبناني، فهو ليس فاقد الأمن والدخل فقط، بل وفاقد الأمل. ولا أحد أفقده الأمل أكثر من السياسيين في لبنان، ولأني لا أحب التعميم، فأنا أقصد هنا الكثير من السياسيين لا كلهم!
الوطن اللبناني مخطوف من تلك الفئة من السياسيين، ومعهم المواطن «المعتر»، ولكن اختطاف الاثنين يسبقه تنويم تحت مظلة من الشعارات الجوفاء، حيث يقال للمواطن إنه سيكون أفضل إذا كان من «أزلام» ذلك الفريق أو هذا، فالقبلية السياسية في لبنان فاقت كل تعصب قبلي معروف. لبنان مخطوف ولكن الأهم أن المواطن اللبناني لا يعرف عن هذا الخطف، فهو لا يأبه كثيرا أن وطنه لبنان لا رأس له، دون رئيس الآن وفي المستقبل القريب، ولا يعرف أحد متى سوف يركب الرأس على لبنان الوطن! لبنان مختبر حي لأوطان تمزقها شرور الشرذمة وعوامل التفكك.
قيل للمواطن اللبناني إن المشكلة تحل إن حدث وفاق بين «سين» و«سين». في ذلك مبالغة وتهويل، أولا لأن «سين» الثانية، إن كانت الإشارة إلى المملكة العربية السعودية، هي في ما أعرف يقينا ليس لها مصالح تريد تحقيقها غير أن يبقى لبنان لأهله حرا وناميا، والدليل المنطقي أن المواطن اللبناني، عاملا أو تاجرا أو مهنيا، يلقى الترحيب في المملكة ودول الخليج، دون أن يسأل إلى أي فئة من القبائل اللبنانية هو ينتمي! أما السين الثانية، إن كانت لسوريا، فهي لم تعد هناك الآن، لقد انشغلت سوريا بنفسها بمرض عضال، فليس باستطاعتها أن تهتم بمرض آخرين، وحتى لو أرادت، فما بالك وهي لا تقدر!
المؤثر الأكثر والأكبر في لبنان هو إيران، عن طريق «حزب الله» الذي صدّر نفسه على أن يكون حاميا وحاملا للطائفة الشيعية اللبنانية الكريمة، واضعا إياها تحت إشارة طهران، في السراء النادرة والضراء السائدة. هذا ليس تخرصا ولا ادعاء، هو من جملة تصريحات الساسة الإيرانيين، كان آخرهم السيد علي لاريجاني، رئيس السلطة التشريعية الإيرانية. كان هناك بعض الفئات من داخل الطائفة ومن خارجها قد استساغت فكرة «المقاومة» للعدو الإسرائيلي، ولكن منذ أن دخل الحزب طرفا في الصراع السوري تبين للكافة مدى هشاشة تلك المقولة. لقد سقطت تلك الذريعة لكثيرين، أي سقطت الحجة لدى الغالبية العظمى ممن صدقها أول مرة. الحقيقة المرة التي يتوجب أن يعرفها «المعتر» أنه لعبة في أيدي السياسيين، وخصوصا أصحاب السلاح الذين يأخذونه إلى مكان خطر لاستخدامه كرأس حربة في حروبهم المختلفة، إما راضيا وإما غير قادر على الرفض.
هنا أتوقف لأقول إن «حزب الله» يعتمد في حشد الأنصار على ذكريات قديمة مرتبطة بمآسٍ أساسها التهميش والظلم، لا يريد أحد لها أن تعود، لكنه لا يحذر من تجديد تلك الأخطاء في أثواب معاصرة، هي تهميش الآخر وظلم الوطن، فالسلوكان التاريخي والحديث يتساويان في الجوهر، ويختلفان في الزمن.
العمل السياسي في لبنان احتكاري بامتياز رغم كل الضجيج الإعلامي عن «قوى السوق» في المجال الاقتصادي! شركة واحدة تسيطر على السوق وتفرض أسعارها، ثم تمدد في أعمالها الاحتكارية وإن كره الكارهون، يتحكم في مفاصل سوق السياسة اللبنانية «حزب الله»، البعض يبدون لأنفسهم أنهم «أحرار» ولكنهم غير ذلك. هذا القهر للمواطن اللبناني يظهر حتى في أغنياته، حزن ونواح، وحتى «يسوع» يوظف في سوق السياسة اللبنانية، كما يوظف «السيد»، وليس بعيدا عنه الكثير من الشعارات الطائفية.
لبنان هو علامة اختبار عربي على عدم قدرة العرب (بطوائفهم وأديانهم) على الاعتراف بالآخر والعيش معه، مهما قال لنا البعض إنه يحترم التعددية، فهي في لحظة ما تسقط عندما يقرر البعض الاستقواء بآخرين لأخذ أكثر من حصتهم. الصراع هو الطبيعة الثانية لأي تجمع بشري، لذلك فإن بعض المجتمعات «قننت» ذلك الصراع، وابتدعت لعبة سمتها اللعبة السياسية من أجل حصر ذلك الصراع في قواعد معروفة ومحترمة، حتى لا يفلت عقاله. الصراع في لبنان أفلت عقاله إلى الحد الأقصى، فمن لا يأتِ إلى الصف يستخدم المال لإغرائه، ومن لا ينفع معه المال يأتِ التهديد لضبطه، ومن لا ينفع معه التهديد يأتِ القتل لتصفيته.
ومن عجائب السياسة اللبنانية أن الحوار بين المستقبل و«حزب الله» واحدة من نقاطه «التوقف عن القتل»! أي قتل السياسيين بين فترة وأخرى، الذي جرى بكثافة على أرض لبنان، ويعرف سياسيو لبنان اليوم القائمة القصيرة المرشحة للتصفية! الضحية الأكثر نزفا هو اللبناني «المعتر»، الذي تغيب عنه الدولة كما تغيب عن السوري، فلا دواء إلا أكثره مغشوش، ولا أكل إلا أكثره فاسد، ولا ماء إلا أكثره تحت إرادة المافيا المائية، ولا كهرباء إلا وأكثرها من مولدات مهترئة، ولا طرق إلا وأكثرها متهالك تزدحم فيه سيارات بعضها غير قابل حتى للبيع خردة، ولا خروج من البيت إلا واحتمال عدم العودة! وهكذا يعاني اللبناني من كل الطوائف، ويسكت عن تلك المعاناة لأنه يفخر بطائفته أو يخاف من انتقام المتنفذين فيها، إلى درجة أن يقدم أبناؤه في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، غير تشدق الزعماء بموالاتهم للآخر البعيد. ربما ما هو واجب التفكير التناقض الواضح الذي يظهر في المقارنة المؤسفة، فالمواطن الليبي، رغم كل ما يحدث في ليبيا من فوضى أفضل حالا من المواطن اللبناني «المعتر»، وربما المواطن في الرقة السورية، رغم العنت، أفضل حالا من اللبناني البسيط، لا لشيء إلا لأن اللبناني يعتقد أنه يعيش في دولة (أصلا غير موجودة إلا على الورق) والليبي وأهل الرقة يعرفون أن لا دولة فوق رؤوسهم. وهل يمكن أن يجد إنسان نفسه في حال أسوأ من هذا الحال، دولة افتراضية فيها كل شيء فاسد إلا في قصور بعض الزعماء؟!
آخر الكلام:
مقتل جنرال إيراني قريبا من سامراء يشي بأن نفوذ إيران ليس سياسيا أو اقتصاديا، إنما هو هناك على الأرض العراقية وأيضا السورية، فهل سوف يستغرب البعض إن عرف أن هناك عسكريين إيرانيين في اليمن؟!