لم تكن البلاد في حاجة الى الكلام الأخير للمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان حول النظام السياسي، لكي يزيد يقين اللبنانيين حول عقم نظامهم السياسي في اجتراح الحلول لأزماتهم المتتالية.
خرج قبلان بخطاب معترض على صيغة لبنانية باءت بالفشل بعد أن خدمت لمراحل طويلة من التاريخ اللبناني منذ نشوء الكيان. هو قال جهاراً ما يهمس به الكثيرون، علما أن الجميع يتفق على ضرورة تطوير النظام، لكن اللبنانيين يختلفون في تشخيص الدواء بين أقصى شرائح اليمين التي تنحو نحو المزيد من المحافظة لا بل يدعو بعضها الى فيدرالية وربما تقسيم مُقنع، وآخرين على المقلب الآخر يريدون عدالة أكثر في التمثيل الطائفي يعكس المتغيرات على الساحة في العقود الأخيرة. وبين هذا وذاك، يقف دعاة الإصلاح الجذري للنظام عبر لفظ صيغته بالكامل تأسيسا لدولة مدنية حقيقية تُلغي الطائفية السياسية وتجتثها من الجذور.
منذ أن نطق قبلان برفضه أصل نشأة لبنان والنظام الطائفي والاستبداد وظروف الولادة «الاستعمارية والاحتكارية»، مؤكدا نهاية الصيغة وما قام به بشارة الخوري ورياض الصلح الذي بات من الماضي، حتى انهالت الانتقادات له من قبل كثيرين، بينما احتفظ الثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة «أمل» بصمت لأيام منذ خطبة المفتي الجعفري الذي فجر مفاجأته ومضى.
وإذا كان قبلان لم يدخل في تفاصيل اعتراضه على طبيعة النظام، فإن مجرد المأزق الذي وجد اللبنانيون أنفسهم فيه اليوم يكفي لإدانة نظام من عمر البلد الذي يطفىء بعد أسابيع شمعته المئة.
والحال أن أصل نشأة لبنان قد تم على أساس طائفي برعاية فرنسية ونتاجاً لأنظمة سابقة عليه كنظام القائم مقاميتين والمتصرفية، واعتبر المؤسسون آنذاك تحقيقهم إنجازاً حديثا عبر جمعهم طوائف ومذاهب متعددة ومختلفة وصوغ النظام السياسي على شاكلة امتيازات لطوائف بينهم.
شكّل ذلك التقسيم الطائفي وتوزيعه بؤرة مشاكل ومآسي للبنانيين تمخض عنها حروبا أهلية، معلنة ومستترة ونزاعات عميقة حالت دون تأسيس دولة حديثة. والواقع أن الفساد الذي يعانيه لبنان اليوم هو نتاج طبيعي لفساد في صيغة التأسيس، وقد تراكم الخلل عبر عقود طويلة ولم يحل دونه إصلاح جزئي جاء به اتفاق الطائف.
الأحوال الشخصية مقابل الطائفية
والحال انه حتى مع التوصل الى الطائف بعد حرب أهلية دامت 16 عاما، لم تجر مساع جدية لتنفيذه على أقل تقدير، تمريرا لمرحلة ستكون طويلة وحبلى بالأزمات في انتظار التوصل الى نظام حديث وحضاري يلفظ العصبيات.
من المؤكد أن نظاما مبتغى كهذا ما يزال بعيد المنال، لكن المشكلة تتمثل في أنه كلما ارتفعت دعوات لتطبيق الطائف، ترتفع أصوات تدّعي وجود حرب إلغاء طائفية، لتقابل ذلك بدعوة الى علمنة شاملة لعلمها أن تلك الدعوة ستُعطل أي مسعى للبدء في مشروع إلغاء الطائفية السياسية، علما أن العلمنة الشاملة مرفوضة من قبل المرجعيات الدينية كافة للطوائف المختلفة ومنها المارونية بطبيعة الحال.
وفي النقطة أعلاه تكمن ثغرة في خطاب قبلان الذي خرج بخطاب حديث بينما هو لن يقبل كغيره المس بقانون الأحوال الشخصية الذي يمثل ركنا هاما في موضوع مدنية الدولة. وذلك في موازاة ثغرة أخرى تتمثل، حسب البعض، في موقع مُطلقها نفسه الذي ورث الإفتاء من والده رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان.
على أن ما يهم اليوم هو مضمون كلام المفتي قبلان، بعيدا عن الشخصانية، وقد يمر وقت طويل قبل أن يُفتح نقاش معمق حول تلك المآخذ على النظام الطائفي اللبناني الفريد من نوعه في العالم، لمعالجتها جدياً، أو أقله الحد من كوارثه المتعاظمة على اللبنانيين.
وليس من شأن الدعوة الى نظام المواطنة المنشود في عصر الحريات وحقوق الإنسان، أن تؤسس إلى صيغة مناقضة تدفع نحو إلغاء أحد، أو تؤسس الى هيمنة أو استبداد ما.
وفي مطلق الأحوال، كان يمكن لوقع صرخة قبلان أن يكون أكثر إيجابية لو جاءت في توقيت زمني مغاير وأكثر ملاءمة لمقاربة ملف دقيق كهذا، علما أنها ربما حضرت ردا على طروحات عنصرية برزت على الساحة. ويبدو من الواجب أن تؤطر دعوة كهذه في نطاق مؤتمر وطني يبحث أزمة البلاد وسبل معالجتها، إذ لا يكفي إطلاق الصرخة، على أهميتها، لتحدث سجالاً كالذي حدث في البلاد، من دون عملية متابعة لقضية شائكة تتهدد النظام السياسي اللبناني.