لا يجوز بعد اليوم الخلط في الدّولة اللبنانيّة بين ما هو دولة ودويلة. الفصل بات حقيقة ملحّة بين هذين المكوّنين اللّذين تحكمهما صفة الشرعيّة. ولا يمكن أن نترجم هذا الفصل إلى ما هو جغرافيّ لأنّه يعني حتماً الذهاب إلى التقسيم. وهذا ما لا نريده. ولا يمكن الذهاب نحو شكل من أشكال التقسيم الكونفدرالي على قاعدة الأقاليم الطائفيّة بسبب التداخل الكثيف بين المكوّنات الحضاريّة للمجموعات اللبنانيّة. فما المطلوب اذاً في هذه المرحلة الحرِجَة من عمر لبنان؟
قد لا يكون المطلوب في هذه المرحلة «المرغوب» لكن ما يجب التنبّه إليه أنّ المطلوب اليوم هو الذي سيؤدّي حتماً للوصول إلى هذا المرغوب. فكلّ لبنانيٍّ اليوم يريد أن يعيش عيشاً كريماً في دولة تؤمّن له الرفاهية والاستقرار؛ بينما نحن اليوم نعيش في دولة بالكاد تؤمّن لنا الحدّ الأدنى من العيش الكريم الذي بفضل توأمة المنظّمة والمنظومة لم يعد كذلك. ففي الموضوع الحكومي الملحّ اليوم يبدو الرئيس نجيب ميقاتي مرتاحاً لأنّه وحده في هذه المرحلة متموضع في حالة Win – Win situation ما يعني عمليّاً بقاءه في السلطة حتّى لو اختلف شكل حكومته. ويبدو أنّه لن يختلف لأنّ هذه الحكومة باقية كما هي. وهذا مطلوب في هذه المرحلة. ويبدو أنّ التقاطع الإقليمي – الدولي هو الذي سيحكم مرحلة المطلوب لا المرغوب.
فإقليميّاً بات واضحاً أنّ اتّجاه الناتو العربي قد وضع حيّز التنفيذ. والمعلومات المتواردة من مختلف المصادر تشير إلى نجاح هذا الحلف. وهذا ما سيمثّل نقلة نوعيّة إقليميّة. فإن نجح لبنان بانتزاع الرئاسة من محور إيران، كما نجح في الانتخابات النيابيّة؛ مع تحفّظاتنا على مرحلة ما بعد هذه الانتخابات، فهو حتماً سيكون شريكاً في هذا الحلف الإقليمي. لكن إن استمرّ محور إيران وسوريا وحلفائهما، لا سيّما حلفاء 6 شباط بالسيطرة على مفاصل الدّولة، فهذا يعني حتماً أنّ لبنان سيكون هدفاً من أهداف هذا الحلف ليستعيد سيادته من البحر حتّى الخليج. وهذا مرغوب عند قسم كبير من اللبنانيّين. ومطلوب في هذه المرحلة.
أمّا دوليّاً، فالملف الذي يبدو الأكثر إلحاحاً هو ملفّ الترسيم. وعلى ما بات معلوماً، تفيد المصادر جميعها بأنّ هذا الملفّ لن يتوقّف عند حدود الترسيم البحري فقط، المطلوب دوليّاً والمرغوب محلّيّاً من قبل العهد، ليسجّل ولو إنجازاً واحداً، علّه يقايضه مع موضوع تحرير الصهر من العقوبات الأميركيّة. وهو مطلوب من الحزب علّه يستطيع أن يفرض نفسه شريكاً على طاولة المفاوضات في المرحلة التطبيعيّة التي دخلت فيها منطقة الشرق الأوسط برمّتها.
وسط هذا الكمّ من التناقضات يبقى معروفاً في علم السياسة، وفي علاقات الدّول أنّه عند تقاطع مصالح الدول الكبرى، على الدّول الصغرى كلبنان أن تسعى لتحقيق مصالحها، مستفيدةً من المومنتوم الذي تفرضه الحداثة الدوليّة والتقاطعات الإقليميّة. ومن المؤكّد أنّ منطقة شرق المتوسّط ستكون قبلة الأنظار الدوليّة، على الأقلّ في السنوات الخمسين القادمة، بعد التثبّت من غناها بالغاز الطبيعي. هذا الغاز الذي بات حاجة أوروبيّة ودوليّة بعد حرب أوكرانيا وروسيا.
لذلك كلّه، علينا كلبنانيّين الإقتناع أنّنا لن نستطيع أن نكون محوراً في المرحلة القادمة إن لم نحقّق العبور إلى الدولة اللامركزية. وعلى ما يبدو أنّ هذا هو المطلوب في المرحلة القادمة. وذلك لأنّه سيمنع الاصطدام مع «حزب الله» المسلّح غير الشرعيّ، وسيحدّ من الارتطام العام. فهذا هو الهدف الذي يجب أن نحمله اليوم. من هنا، على النوّاب الجدد والمستقلّين والسياديّين الذين يشكّلون أكثريّة حقيقيّة في برلمان 2022 أن يعملوا على تسريع إقرار قانون اللامركزية السياسية والإدارية الموسعة مع مراسيمه التطبيقية كلّها. وطرح الحياد الناشط والإيجابي كقانون يناقش في البرلمان اللبناني لكسر هذا « التابو».
وهذا وحده سيؤدّي إلى المرغوب من قبل اللبنانيّين كلّهم. والعمل يُتابع بطريقة تصاعديّة إقليميّاً مع راعٍ إقليميّ يعيد لبنان إلى عمقه الحيويّ – الحياتي والاستراتيجي، ودوليّاً مع راعٍ دوليٍّ يعيد لبنان إلى الحاضنة الدّوليّة وطنًا للرسالة التي فرضها عليه التاريخ، ليضمن تحقيق المطلوب. ذلك كلّه حتّى الوصول إلى جمهوريّة سيّدة على الـ 10452 كلم2 بالكامل، يحقّق فيها الإنسان اللبناني طموحاته من دون أن يضطرّ إلى الهجرة. ومن يصبر إلى المنتهى … يخلص !