دعوات كثيرة واحتجاجات خجولة
شكّلت تظاهرتا 14 و 8 آذار في العام 2005 ذروة القدرة على حشد متظاهرين في الشوارع اللبنانية. يومها دفع اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري بالغاضبين للتظاهر مطالبين بخروج الجيش السوري من لبنان وتشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق في جريمة اغتياله. فسارعت قوى الثامن من آذار إلى دعوة مناصريها للتظاهر “شكراً سوريا”. مئات الآلاف نزلوا إلى الشارع بمشروعين سياسيين واضحين، محدّدين ومتناقضين. تغيّرات كثيرة وأزمات معيشية كثيرة طرأت على حياة اللبنانيين منذ ذلك الحين. وفيما انصرف السياسيون الى تسوياتهم، أخذت التحركات في الشارع اللبناني تتراجع وتنحسر. لكنّها لم تخلُ من بعض الهبّات التي تقدّمها أشخاص تحوّلوا إلى نجوم ورموز هذه التحرّكات. اليوم أصبحت الأحجية التي تحاول بعض القوى “التغييرية” حلّها: كيف نحثّ الناس على النزول إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم وللضغط على السلطة؟ في محاولة لخلق توازن رعب بين المواطن والسّلطة لإجبارها على العمل.
برزت خلال السنوات الماضية تحرّكات مطلبية عدّة، بوتائر متفاوتة. لمع في خلالها نجم شخصيّات بارزة استطاعت استقطاب الإعلام والتميّز في جرأتها وفي جدّيتها في المطالبة. ففتحت مؤسسات إعلامية منابرها لهذه الشخصيات، وتنافس إعلاميون لدعوتها الى منصّاتهم. وأبرزهم نجم هيئة التنسيق النقابية حنا غريب وزميله نعمة محفوض. ومجدداً عاد صوت هيئة التنسيق النّقابية ليحذّر هذه المرّة السّلطة من المسّ بمكتسبات الموظّفين والمعلّمين أو التراجع عنها. لكنه صوت خافت تغيب عنه نبرة “الرفيق” حنا على منصته مطالباً ومتوعداً. فاليوم، كما في كلّ مرة يبدأ فيه درس مشروع الموازنة، يتخوّف الموظّفون في القطاع العام من المسّ بسلسلة الرّتب والرّواتب. سلسلة لم يكن من السّهل الحصول عليها، إنما أقرّت بعد مسار من الإضرابات والاحتجاجات والاعتصامات، استمرّت منذ العام 2012 حتى العام 2015. ففي العام 2012 بدأت الهيئة تصعيدها لمطالبة مجلس الوزراء إدراج إحالة سلسلة الرتب والرّواتب إلى المجلس النيابي لإقرارها. اشتهر منسّق الهيئة حنّا غريب، أستاذ الكيمياء، الذّي تميّز بلهجته ونبرته الحاسمة والعالية. شدّ إليه وسائل الإعلام التي عادة ما تلتفت إلى الشخصيات ذوي النبرة المرتفعة في وجه السلطة والتي تتهدّد وتتوعّد. نجحت هيئة التّنسيق بقيادة غريب في اقناع آلاف الموظّفين والأساتذة بالنّزول إلى الشّارع والتظاهر أمام المقرّات الحكومية، والإضراب عن العمل، للضغط على المسؤولين ودفعهم لإقرار سلسلة الرتب والرّواتب وتصحيح أجور الموظفين، بعد التآكل الذي أصابها جرّاء الغلاء المعيشي.
لم يكن غريب وحده نجم هذه التحرّكات، إلى جانبه وقف نقابيون وأبرزهم نقيب معلمي المدارس الخاصة نعمة محفوض. نجحت القوى السياسية في إخراج غريب من الهيئة بعد نجاحها في إبعاده من رئاسة رابطة أساتذة التعليم الثانوي. لكنّ غريب حظي بمنصب أهمّ، وانتخب أميناً عاماً للحزب الشيوعي. منصب لم يضف الكثير إلى مسيرة غريب لا بل إنه كبله وحشره في الإطار الحزبي فبات أسير خطاب إيديولوجي وتحالفات محدودة بفريق 8 آذار. أما محفوض، فخيّب ظنّ الشرائح المعارضة للسلطة عندما ترشّح في الانتخابات النيابية الماضية على لائحة تيار المستقبل.
طلعت ريحتكم … كلّن يعني كلّن
شكّلت تظاهرة 29 آب في العام 2015 مشهداً جديداً في السياسة اللبنانية. فللمرّة الأولى نزل عشرات الآلاف إلى الشّارع من دون دعوة من زعمائهم، بعيداً من أية اصطفافات سياسيّة. بل رُفع شعار كلّن يعني كلّن، للتّأكيد على رفض تبرئة أيّ حزب سياسي شارك في الحكم وأيّ سياسي شارك في السلطة من الاتهام بالفساد. بدأت التحرّكات بدعوة من عدد قليل من الأشخاص، أسّسوا مجموعة سمّيت بـ “طلعت ريحتكم” بعد أزمة النفايات التي ملأت شوارع بيروت. سبق يوم الحشد الكبير تحرّكات صغيرة واجهتها القوى الأمنية بخراطيم المياه، ما حمّس المزيد من الناس للمشاركة في الاحتجاجات. لكنّ تظاهرة 22 آب والتي تعاطت معها القوى الأمنية بقسوة وأطلقت خلالها النار على المتظاهرين والرّصاص المطّاط والقنابل المسيّلة للدّموع وأصابت أحدهم بجروح خطرة، دفعت بعشرات الآلاف للنزول إلى ساحتي رياض الصلح والشهداء في 29 آب 2015. غير أنّ المجموعات التي نشأت خلال الحراك وأبرزها حملة “طلعت ريحتكم” تفاجأت بعدد المشاركين وحجم تلبية الدعوة، وفشلت في استثمار نجاحها في حشد الناس. إذ عجزت عن استثمار الأمر في السياسة وفرض أيّ من شروطها، واتّكلت على الاستمرار في الدعوات للتظاهر والتحركات في الشارع، لتتراجع بعدها مشاركة الناس في الحراك ويخفت صوتها. اشتهرت خلال هذا الحراك شخصيات عديدة. بعضها أحبّ النجومية، وفتحت له قنوات تلفزيونية هواءها فاعتاد على التنقل من مقابلة إلى اخرى. وآخرون سمحت لهم “كاراكتيراتهم” في التقدم إلى الواجهة. وعلقت في أذهان الناس أسماء مثل: أسعد ذبيان، عماد بزي، نعمت بدر الدين، مروان معلوف، وديع الأسمر وغيرهم. كما درج استخدام كلمة “ناشط” لوصف المتظاهرين الذين راحوا يصرّحون لوسائل الإعلام. كذلك حاول بعض مغنّي البلاط ركوب موجة هذه التحركات، ظناً منهم أنها قد تؤدي الى تغيير ما حاولوا حجز مكان لهم فيه او التسويق لأنفسهم من خلاله. لكنهم عادوا سريعاً الى قواعدهم البلاطية سالمين خصوصاً زين العمر الذي نجا من “فتّيشة” أصابته بالهلع.
لم ينجح نجوم الحراك في صياغة خطاب سياسي واضح ومقنع، بالتالي طرح أنفسهم كبديل سياسي جدّي. وانقسموا في الانتخابات البلدية في العام 2016، لكن حملة “بيروت مدينتي” استطاعت أن تفرض نفسها منافساً للسلطة في الانتخابات البلدية في بيروت. ونجح رئيس اللائحة ابراهيم منيمنة في نيل أكثر من ثلاثين ألف صوت، ما قدّر بنحو 40% من الأصوات. لكنّ اعتماد القانون الأكثري لم يسمح بوصول أيّ من مرشّحي اللائحة الى المجلس البلدي. أثناء الانتخابات النيابية في العام 2018 عانى هؤلاء من وضع أصعب، وعجزوا عن تحقيق أيّ خرق على الرغم من اعتماد النظام النسبي. ومنهم من نال أصواتاً خجولة جداً، ومنهم من فشل حتى في إيجاد لائحة يترشّح فيها فأعلن انسحابه من الانتخابات مختلقاً ذرائع.
اليوم تحاول بقايا مجموعات حراك 2015 استنهاض نفسها والشّارع بين فترة وأخرى، مراهنة على فشل السلطة ليتجاوب الناس مع دعواتها للنزول إلى الشارع. لكن وعلى الرغم من كثرة الأخطاء التي ترتكبها السّلطة وعلى الرّغم من تردّي الأوضاع الإقتصادية والأزمات الأخيرة الناجمة عن شحّ الدولار، غير انّ أيّ من التحرّكات الأخيرة في الشّارع لم يرق إلى مستوى الأزمة. بل إنّها حتى لا تعكس وجود أزمة بهذ الهول. بل تظهر وكأنّها احتجاج على مسائل بسيطة. وشهدت التظاهرة التي دعت إليها بقايا مجموعات حراك 2015 مشاركة خجولة. وتكاد تقتصر المشاركة في هذه التحرّكات على الوجوه المألوفة ذاتها، والتي باتت تنزل إلى الساحات وتصرّح للإعلام وتعود أدراجها، لتتظاهر مجدداً. ولربّما هو تأثير تجربة حراك 2015 التي باتت تحضّ على اليأس اكثر منها على الأمل…
حملة إلغاء النظام الطائفي
في العام 2011 أطلقت مجموعة من الشباب والجمعيات حملة للمطالبة بإلغاء النظام الطائفي في لبنان. اعتبر مطلقو الحملة أن الممارسة الطائفية للنظام في لبنان هي التي تمنع قيام دولة عادلة يتساوى فيها جميع المواطنين بالحقوق والواجبات. انطلاقاً من هذا الاعتبار، طالبوا بإلغاء النّظام الطّائفي ورموزه. لكنّ خلافات عدة ظهرت بين المطالبين بإلغاء النظام الطائفي. فمنهم من طالب بالزواج المدني الاختياري بينما رأى آخرون في “اختياري” ضرب لمبدأ المساواة الجندرية. كما حاول البعض تجنّب استخدام كلمة “علمانية” خوفاً مما تثيره في نفوس الطائفيين وربما في محاولة لتحسين فرص الوصول إلى هدفه وإن بخطوات بطيئة. يُرجع عدد ممن شاركوا في الحملة والتحركات التي تبعتها أمام مجلس النواب، أسباب الفشل إلى نجاح قوى سياسية في خرق صفوفهم وإفشال تحركهم. بعدما دخلت معهم إلى الخندق ذاته وأشعلت الخلافات داخله. ووفق أحد المشاركين في الحملة فإن الحملة تمكنت من حشد نحو 25 ألف متظاهر في تظاهرة انطلقت من الأشرفية الى وزارة الداخلية. لكنه يعتبر أن الانقسام حول الوضع السوري في العام 2011 هو الذي فجر الحملة وأفشلها
إحتجاجات مار مخايل
في العام 2008 تجمّع عدد من الشباب للاحتجاج على انقطاع الكهرباء قرب كنيسة مار مخايل في الشياح في الضاحية الجنوبية، أشعلوا الاطارات وأقفلوا الطريق. تدخّلت قوة من الجيش اللبناني لفتح الطريق، وأطلقت النار لتفريق المتظاهرين وتعرض الجيش لاطلاق النار فرد على مصادر النيران. نتج عن هذه التوترات مقتل سبعة أشخاص ثلاثة منهم ينتمون الى “حزب الله” وواحد الى “أمل” وقتل مسعف ومدني، ما أدى إلى توتر أمني كاد يشعل البلد في ظل انقسام حاد حينها ووجود “حزب الله” في موقع المعارضة، وانتقلت الاحتجاجات الى الجنوب والبقاع حيث قطعت الطرقات قبل أن تطوّق الأزمة.
تحميل كلفة الإنهيار الاقتصادي لمن تسبب به
نفّذ الحزب الشيوعي في أيار الماضي سلسلة تحركات بعنوان تحميل كلفة الإنهيار الإقتصادي لمن تسبب به. تزامناً مع دراسة مشروع موازنة 2019 وانعقاد القمة الاقتصادية العربية في بيروت. ووعد الحزب حينها بتصعيد تحركاته مطالباً السّلطة بتحمّل تبعات الإنهيار.
واعتبر الشيوعي أن على من تسبب بالانهيار واستفاد من الفساد والسياسات الاقتصادية المتبعة على مدى ثلاثين عاماً تحمّل التبعات رافضاً تحميله للمواطنين، لكنّ تحركات الحزب انحسرت واختفت. على الرغم من أن مسؤولين في الحزب صرّحوا بأنه يدرس خطوات للتصعيد قد تصل حدّ إعلان العصيان المدني. لكن التحرّكات نسيت ونجحت السلطة في رهانها على عدم جديّة هذه التحرّكات، على الرّغم من أن الشيوعي اليوم هو اكثر القوى خارج السلطة القادرة على الحشد، وإن لم يتجاوز هذا الحشد العشرة آلاف.
مطالب لا تنتهي
على مدار الأعوام السّابقة حصل العديد من التحرّكات والتظاهرات والاعتصامات المطلبية ذات الأهداف المختلفة. ففي عيد الأم اختارت أمهات لبنانيات الاحتفال بالعيد أمام المحكمة الجعفرية للمطالبة برفع سنّ الحضانة لدى الطائفة الشيعية. وكانت الإعلامية والناشطة نادين جوني، التي فارقتنا أوّل من أمس، من المنظمين والداعين لهذا الاعتصام. كما نظّمت جوني وشاركت في العديد من التحركات المطالبة برفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية، ونشطت في حملة “الأبيض ما بغطي الاغتصاب” لمنع مكافأة المغتصب بتزويجه الضحية. إضافة إلى حملة “مين الفلتان” التي طالبت بتشديد العقوبات ضد المعتدين جنسياً على النساء لردعهم. ونظّم العديد من الجمعيات النسائيّة تحرّكات للمطالبة بوضع حد للعنف الأسري. ونزل تحت المطر نحو 3000 شخص تلبية لدعوة التحالف الوطني لحماية الأطفال من الزواج المبكر، وطالبوا بإقرار قانون يمنع تزويج الطفلات. لكنّ النوّاب لم يستجيبوا لهذا المطلب في إصرار على انتهاك حقوق الأطفال ورفض حمايتهم.
لكل قضية تحرّك
كذلك نظّمت حملة جنسيّتي كرامتي تظاهرات للمطالبة بقانون يسمح للمرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي بمنح جنسيّتها إلى أولادها. حتّى أن الناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية وجدوا أنفسهم مضطرين للتظاهر في محاولة للضغط من أجل تحصيل حقهم. وطالب الناجحون الحكومة بتوقيع مراسيم تعيينهم. كما نظمت لجنة أهالي المفقودين والمخفيين قسراً تحركات للمطالبة بتشكيل لجنة لكشف مصير ذويهم بعد أن نجحت بالاستحصال على قانون يضمن حقها هذا. وشهد لبنان اعتصامات تذكّر وزارة البيئة بوظيفتها بحماية البيئة، فنظّمت اعتصامات لرفض المحارق ولإقفال المقالع والكسارات، وضدّ إقامة سدّ في بسري. لكنها تحركات خجولة تكرّرت فيها ذات الوجوه. ووجدت العاملات الأجنبيات في لبنان مساحة للتعبير عن مطالبهنّ، فطالبن بإلغاء نظام الكفالة الذي ينتهك حقوقهنّ.
وإن دلّ نوع هذه التظاهرات والمطالب المرفوعة خلالها وعدد المشاركين فيها على شيء، فإنما يدلّ على سوء وتخلّف القوانين اللبنانية وكذلك الواقع اللبناني الذي بات يواجهه المواطن باليأس والاستسلام وفقدان الأمل. فهل هناك ما سيستنهض الشارع اللبناني يوماً ما ليدفعه للتحرّك مجدّداً؟