جاء الفيتو الأميركي في مجلس الأمن ضد مشروع قرار وقف فوري لإطلاق النار في غزة، مجسِّداً للدعم الأعمى الذي تقدمه إدارة بايدن لحرب نتانياهو الإجرامية ضد المدنيين في القطاع الملتهب، ومكملاً للمساعدات العسكرية اللامحدودة التي تنقلها طائرات الجسر الجوي إلى تل أبيب، وبواخر الجسر البحري إلى حيفا وإيلات يومياً، ومنذ أكثر من شهرين.
الصمود الأسطوري لغزة، رغم كثافة القصف الجوي والبري والبحري على مدار الساعة، ورغم إجتياح آلاف الجنود الإسرائيليين بدباباتهم، وآلياتهم الضخمة، أسقط وإلى الأبد أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، بل وفضح هشاشة التركيبة العسكرية والأمنية للدولة الصهيونية، سواءٌ بعملية «طوفان الأقصى»، أم بالمواجهات المباشرة في المعارك البرية في مدن القطاع، والتي يتكبد فيها الإسرائيليون خسائر فادحة بالرجال والعتاد، لم تستطع آلة الحرب الجهنمية أن تحجبها عن الإعلام العبري، حيث كشفت صحيفة «بديعوت أحرونوت» أن عدد المصابين من العسكر الإسرائيلي وصل إلى خمسة آلاف عنصر بين ضابط وجندي، وأن ألفين منهم أصبحوا معاقين، وأن مئة عنصر على الأقل فقدوا بصرهم. هذا عدا القتلى الذي يُحاط تعدادهم بتكتم شديد.
المجازر اليومية التي يرتكبها جيش نتانياهو في مدن القطاع ومخيماته، تتجاوز حدود «العقاب الجماعي» للفلسطينيين، إلى أساليب «حرب إبادة» ممنهجة، بشراً وحجراً، وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش بكل جرأة، بأنها «جرائم ضد الإنسانية»، ولا تحترم موجبات القوانين الدولية والإنسانية في الحرب، التي تُحرّم إستهداف المدنيين، أو تعريض حياتهم للخطر.
ولكن مع دخول الحرب شهرها الثالث دون تحقيق أيٍّ من أهدافها، سواءٌ في تحرير الرهائن، أو القضاء على حماس، فإن الحصار على نتانياهو وحكومته اليمنية المتطرفة يشتد، داخلياً وخارجياً. أصوات المعارضة السياسية في الداخل، والتظاهرات المتصاعدة في تل أبيب بدأت تُطالب برحيل نتانياهو، والعودة إلى المفاوضات لتأمين عودة الرهائن أحياءً إلى ذويهم. والتغيّر الواسع الذي طرأ على مواقف العديد من الدول الأوروبية، والتي كانت حتى عشية الحرب من الحلفاء التقليديين للدولة الصهيونية، أصبحت اليوم من أشد العواصم إنتقاداً لوحشية الحرب الإسرائيلية في غزة.
يُضاف إلى كل ذلك النجاحات الديبلوماسية التي حققتها اللجنة السباعية المنبثقة عن قمة الرياض العربية ـــ الإسلامية برئاسة الأمير محمد بن سلمان، والتي بلغت ذروتها في إعداد الأجواء المناسبة لمشروع قرار مجلس الأمن الداعي لوقف النار فوراً في غزة، والذي أسقطه الفيتو الأميركي الوقح. فضلاً عن المواقف العالية السقف التي أطلقها رئيس اللجنة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في نيويورك، ولقائه العاصف مع وزير الخارجية الأميركي بلينكن، إثر الفيتو الأميركي المشؤوم.
ولم يعد خافياً أن واشنطن مدّدت مهلة الحرب حتى نهاية الشهر الحالي، أو مطلع العام الجديد على أبعد تقدير، في حين يُطالب جنرالات الحرب الإسرائيليين شهراً إضافياً حتى نهاية كانون الثاني ـــ يناير المقبل. والطلب الأخير يؤكد حالة التخبط وعدم الثقة المهيمنة على مواقع القرار في تل أبيب، بسبب الإخفاقات المستمرة في تحقيق أي تقدم في غزة، وتزايد الخسائر في الحملة البرية المثيرة للجدل في الداخل الإسرائيلي.
وإذا كان من المسلّم به أن جحيم غزة سيحرق مستقبل نتانياهو السياسي، فإن وضع السلطة في القطاع بعد الحرب، مازال محور مناقشات عربية وإقليمية ودولية، على خلفية رفض كل الأطراف، بمن فيهم الأميركي، لعودة الإحتلال الإسرائيلي إلى غزة، أو فرض السيطرة الأمنية على القطاع، كما يردد نتانياهو.
ولكن ثمة تخوف أوروبي، وإلى حد كبير فرنسي، من أن يرتد نتانياهو إلى لبنان، في هروبه إلى الأمام بعد الفشل الكبير في غزة، ويفتعل مواجهة عسكرية مع حزب الله على الحدود الشمالية، ويجر لبنان إلى حرب لا أحد يرغب فيها من اللبنانيين. فضلاً عن أن البلد المأزوم بإنهياراته الإقتصادية، وفشل منظومته السياسية، غير قادر على الدخول في معركة عسكرية مع العدو الإسرائيلي.
ومحادثات وزير المخابرات الفرنسي برنار إيميه في بيروت تمحورت حول «الوضع المقلق» في الجنوب، وضرورة إبعاد الفصائل الفلسطينية عن الحدود، لعدم إعطاء الطرف الإسرائيلي أية ذريعة لإقحام بلد الأرز في حرب جديدة مع تل أبيب، إلى جانب إطمئنانه على أوضاع الفرنسيين المحتجزين لدى حماس في غزة.
والسؤال: ماذا لو طالت الحرب في غزة حتى نهاية الشهر الأول من العام الجديد، هل يبقى التراشق المتصاعد على الحدود الجنوبية ضمن قواعد الإشتباك، وتفشل المحاولات الإسرائيلية في جر لبنان إلى حرب جديدة؟
الجواب برسم الإدارة الأميركية في واشنطن، التي أخذت على عاتقها لجم الإندفاعة الإسرائيلية ضد لبنان، مقابل إلتزام الطرف اللبناني بالإبقاء على سقف الإشتباك الحالي، وإستيعاب التصعيد المتعمَّد من الجانب الإسرائيلي في الفترة الأخيرة.