Site icon IMLebanon

أسطورة الفينيق “واقعية” في لبنان

ليس تجاهل الشغور الرئاسي بحجة الانتظار الى ما بعد حرب غزة سوى استمرار للسير في الاتجاه المعاكس للحدّ الأدنى من الواجب الوطني الطبيعي. وهو أصلاً سابق لحرب غزة. ومن الصعب الرهان على تغيير جدّي بعد حرب غزة، ما دام علينا أن ننتظر «الخماسية» العربية والدولية ثم إيران لفتح الباب الى الاستحقاق الرئاسي بدل أن تدفعنا حرب غزة الى انتخاب رئيس وإعادة تكوين السلطة لمواجهة مضاعفات ما بعد الحرب. فمن يعطل الاستحقاق الرئاسي منذ أيلول 2022 يفضّل الشغور على وجود رئيس وحكومة «فاعلة» ولو كانت حصّته كبيرة فيهما، لأن هذا الوضع مريح له محلياً وإقليمياً كي يكتمل مشروعه من دون «وجع رأس»، ولو خسر لبنان الحفاظ على رأسه. والمفترض أن أي رئيس لا بدّ أن يكون له رأي ما في توريط البلد في صراعات المحاور وربطه بحرب غزة و»محور المقاومة»، كما في حملات التهجّم على الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين، وحملات «الذباب الإلكتروني» على البطريرك الماروني بشارة الراعي.

 

والوجه الآخر للسؤال عن الشغور الرئاسي وتكريسه هو: هل نحن في جمهورية؟ هل نحن مواطنون أم رعايا طوائف وقبائل؟ وهل نحن شركاء في وطن؟ الجواب هو: نعم ولا معاً. نعم في الشكل، ولا في المضمون. فالتاريخ منذ قيام لبنان الكبير كمغامرة حرية في الشرق هو سعي هذه الطائفة أو تلك للهيمنة على بقية الطوائف، واندفاع كل واحدة من القوى الداخلية نحو الرهان على قوة خارجية لتمكينها من الهيمنة، قبل أن تكتشف من دون أن تتعلم أن كل قوة خارجية تريد هي الهيمنة والنفوذ عبر التلاعب بالقوى المحلية.

 

والسلسلة ناطقة. ومن الأرجحية المارونية وما أصابها الى الأرجحية السنية وما أصابها، وصولاً الى الأرجحية الشيعية وما يمكن أن يصيبها، ولو أن كل طائفة تتصور أنها الشذوذ عن القاعدة، فلا أحد اسمه مواطن في «دولة» طوائف وقبائل. ولا دولة مواطنة من دون البدء بما حدّده أرسطو قبل أكثر من ألفي عام بالقول: «الدولة جماعة مواطنين عاقلين أحرار، لا جماعة مؤمنين». ونحن رعايا لا مواطنون. وأهل عصبيات لا عاقلون، وإن كان بيننا عاقلون لا يستطيعون تغيير مجرى التيار الطائفي الجارف. ومرتبطون بزعامات لا أحرار، وإن ادعينا العكس. الدستور نظرياً دستور دولة مدنية في مجتمع طائفي كان طموح صانعيه والجيل الأول من رجال الدولة الوصول من خلاله الى دولة أرقى من الطوائف. لكن ما وصلنا اليه هو طوائف أقوى من الدولة بعد تقاسمها حصصاً. ودستور ما بعد اتفاق الطائف فتح باب العبور بالتدرج الى دولة مواطنة مدنية وانتخابات خارج القيد الطائفي بعد تجاوز الطائفية وإلغاء الطائفية السياسية، لكن المافيا السياسية والمالية والميليشيوية الحاكمة والمتحكّمة قادتنا في الاتجاه المعاكس الى سلطة مذاهب وخلافات وصراعات مذهبية على أشلاء الدولة. حتى انتفاضة تشرين الشعبية السلمية جرى إجهاضها على أيدي الزعامات الطائفية.

 

والظاهر أن أسطورة الفينيق الذي يحترق ويقوم من رماده تنطبق على حياتنا السياسية. فالأسماء تتغيّر لكن الواقع هو المزيد من الشيء نفسه. لا بل إن كل جيل يبدو متأخراً، لا متقدماً، بالنسبة الى الجيل الذي سبقه. فهل كان المتصرف أوهانس باشا على خطأ أم صواب في القول عن لبنان إنه «مزيج هجين من الإقطاع الآري و»القبلية السامية»؟