لم نعد نحتاج إلى كثير من تعليقات الخبراء والمعلقين الإسرائيليين لاستكشاف أصداء معركة تحرير الجرود ومفاعيلها في وعي صناع القرار السياسي والأمني في تل أبيب وحساباتهم. فالأداء الإسرائيلي والذاكرة ووسائل الإعلام العبرية والعربية زخرت، طوال السنوات الماضية، بمواقف مسؤولين إسرائيليين كثر، بمستوياتهم العسكرية والسياسية والاستخبارية، تناولت مختلف جوانب المواجهة بين حزب الله والجماعات الإرهابية والتكفيرية.
وهو ما شكل رؤية إسرائيلية متكاملة، يكفي الاستناد إليها لاستخراج معالم رهاناتهم وآمالهم، لدور هذه الجماعات في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية لمواجهة حزب الله ومحور المقاومة. وفي الخلاصة، تحقق السيناريو الأكثر إقلاقاً لصانع القرار في تل أبيب: تبدّد الرهان على الدور الوظيفي لهذه الجماعات بسقوفه المتعددة، الاجتثاث والاستنزاف والإشغال، وتحوّل حزب الله إلى درع لبنان فعلياً، مع منسوب غير مسبوق من التأييد والالتفاف الشعبي.
بالنسبة لمن ذاكرتهم قصيرة، في البداية كان سقف رهاناتهم في تل أبيب مرتفعاً، وأبلغ من عبّر عنها، في حينه، وزير الأمن ايهود باراك ورئيس أركان الجيش بني غانتس وغيرهما. وتمحورت هذه الرهانات في السنوات الأولى من الأحداث السورية حول الآمال بالتخلص من حزب الله وإعادة إنتاج بيئة إقليمية تُطبق واشنطن بموجبها سيطرتها على سوريا ولبنان والمنطقة، وتوفر لتل أبيب حزاماً أمنياً إقليمياً يطلق يدها في المنطقة وبشكل أخص في مواجهة لبنان.
مع تبدّد هذه الآمال، تراجعت سقوف الرهانات الإسرائيلية إلى مستويات تطمح من خلالها إلى أن تشكل قيداً على هامش الرد والمناورة في مواجهة أي عدوان إسرائيلي، وصولاً إلى محاولة استنزافه وإشغاله وحرف تركيز قدراته نحو جبهات متعددة.
مع تهاوي سلسلة «السقوف – الرهانات»، بفعل هزيمة المخطط الأميركي ــ بالأصالة، والتكفيريين ــ كأداة (كانوا يراهنون على نجاح مشروعهم بما يتجاوز كونهم أداة) في الساحة السورية، وبعد تشتيت انتشارهم، تراجع الدور الوظيفي لهذه الجماعات بما يتناسب مع الانتشار الجغرافي لكلّ منها.
مع ذلك، بات هذا الدور الوظيفي أكثر ظهوراً من أيّ عنوان وهوية أخرى كانوا يتوهمونه. وأكثر من عبَّر بشكل صريح ومباشر عن موقع هذا الدور في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية، كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي حذَّر من الأمم المتحدة، وفي مناسبات أخرى أيضاً، من هزيمة داعش وترك إيران (وحلفائها)، واصفاً هذا السيناريو بأنه انتصار في المعركة وخسارة للحرب. ثم كرر موقفاً مشابهاً قبل يومين عند زيارته الجولان برفقة كبار القادة العسكريين، محذراً من أن «داعش في تراجع كبير، وإيران تحاول أن تملأ هذا الفراغ». وأيضاً رئيس الاستخبارات اللواء هرتسي هليفي الذي حذر، في مؤتمر هرتسيليا السنة الماضية، من خطورة مفاعيل القضاء على داعش، وتأثير ذلك على معادلة الصراع مع إسرائيل لصالح حزب الله وحلفائه.
في الجنوب بات دور «الحزام الأمني» لإسرائيل هو العنوان الرئيسي الفعلي الذي يحكم أداء هذه الجماعات، إلى حين تبلور القرار الإقليمي والدولي بالاستغناء عنها بعد استنفاد دورها.
في الشرق السوري حاولوا ــ وما زالوا ــ لعب دور العازل الذي يسعى للفصل بين ساحات محور المقاومة، من لبنان وسوريا إلى عمقها العراقي والإيراني.
وفي ساحات أخرى، ما زالت الحاجة إليهم لمواصلة عملية استنزاف الدولة السورية، وكجزء من أوراق الضغط والمساومة على طاولة المفاوضات. وفي هذا الكثير من التفاصيل.
أما في الجرود اللبنانية، فقد بات الدور الوظيفي المركزي لهذه الجماعات موجّهاً بشكل رئيسي باتجاه لبنان، خاصة بعدما فقدت التواصل مع عمقها السوري، وبات تأثيرها على الساحة السورية أكثر ضعفاً ومحدودية من أي وقت مضى.
انطلاقاً من القوالب نفسها التي تحكم المقاربة الإسرائيلية لمجمل دور هذه الجماعات على الساحة السورية، كان وما زال الرهان الإسرائيلي على أن تكون هذه الجماعات مصدر تهديد الجبهة الداخلية والخلفية لحزب الله (بحسب تعبير غانتس)، ومحاولة إشغاله وفرض قيود على هامشه في المبادرة والرد في مواجهة التوثب الإسرائيلي ضد لبنان. إضافة إلى كونها ورقة يمكن للعديد من الجهات الإقليمية والدولية، وحتى بعض المحلية، توظيفها في الساحة اللبنانية كما حصل في أكثر من بلد عربي.
ينبغي التذكير، أنه ليس جديداً الرهان الإسرائيلي على الجبهة الخلفية لحزب الله، وتحديداً منذ خروج الجيش السوري من لبنان وتشكيل سلطة معادية للمقاومة في لبنان سعت لنزع سلاح المقاومة. وهو ما كشفه بشكل صريح ومباشر رئيس الاستخبارات العسكرية في حينه، ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي الحالي، اللواء عاموس يادلين خلال مؤتمر المعهد عام 2016، («الأخبار» ــ العدد ٢٩٥٧ ــ ١٠ آب ٢٠١٦ ــ إسرائيل: أردنا ردع حزب الله فردعنا).
الآن، وفي ذروة الانتصارات السريعة التي حققها ويحققها حزب الله في معركة تحرير الأراضي اللبنانية ـــ الجرود ـــ من سيطرة تنظيم «القاعدة – جبهة النصرة»، على أن يتبعها لاحقاً تنظيم «داعش»، من المسلّم به، وبالاستناد إلى مجمل رؤية المؤسستين السياسية والأمنية الإسرائيلية، أن منسوب القلق في تل أبيب بلغ مستويات متقدمة في ضوء النتائج والتداعيات التالية:
القضاء على سيطرة هذه الجماعات في الجرود يعني سقوط الرهان عليها كمصدر تهديد عسكري للجبهة الداخلية في لبنان. وكعامل إشغال واستنزاف وتقييد لهامش حزب الله في مواجهة أي عدوان إسرائيلي.
سلب الجهات المعادية للمقاومة في لبنان والمنطقة، إحدى أهم أوراقها على الساحة اللبنانية، والتي كشفت التجارب السابقة أنها تؤدي دوراً وظيفياً أمنياً وسياسياً في سياق الصراع مع المقاومة وخيارها في لبنان. والنتيجة التي ستترتب على فقدان هذه الورقة، هو إضعاف مكانة هذه الجهات، والرهان عليها، في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية في مواجهة حزب الله.
القلق الأكثر حضوراً في وعي وحسابات المؤسسة الإسرائيلية، هو تحقق السيناريو الذي استشرفته الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، «امان»، قبل أكثر من سنة، على لسان رئيس الساحة الشمالية، ومن ضمنها لبنان، عندما لفت إلى أن حزب الله «تحول فعلاً إلى درع لبنان». (الأخبار – العدد ٢٨٧٠ – ٢٣ نيسان ٢٠١٦)، وهو ما يعني تصدع المخطط الإسرائيلي بأن يبدو حزب الله في الوجدان العام اللبناني كما لو أنه مشكلة، وليس عامل قوة، إلى جانب الجيش اللبناني، يحمي لبنان من الأخطار الإسرائيلية والإرهابية. ومن المؤكد أن المعطى الذي عزَّز القلق في تل أبيب، وأجهزتها المهنية والسياسية، هو التأييد والالتفاف الشعبي الواسع حول عملية تحرير الأراضي اللبنانية.
على المستوى العسكري، المؤكد أن الجهات المهنية ذات الصلة، واكبت وستواكب تطور كفاءات وقدرات حزب الله الهجومية في مناطق جبلية معقدة، وعبر تشكيلات قتالية لم يسبق أن واجهتها إسرائيل في مواجهة الحزب. ومع أن كبار القادة والخبراء الإسرائيليين سبق أن أقروا بتطور حزب الله على هذا الصعيد، إلا أن معركة تحرير جرود عرسال شكلت ترجمة عملية لهذا المفهوم الذي بات أكثر حضوراً لدى جيش العدو على مستوى الخطط وفرضيات العمل.
مع ذلك، يبقى السؤال حول الخطة الأميركية – الإسرائيلية المضادة التي سيعمل عليها الطرفان بعد فشل هذه الجماعات في تحقيق المؤمل منها، وهو ما يستدعي المزيد من المتابعة والرصد لمعالمها وأدوات تظهيرها.