ما زلت أرى أن رد الفعل الأنسب للاستفزازات الإيرانية هو مزيد من الضغوطات الاقتصادية، وليس العمل العسكري. هذا ليس رأياً ضحلاً، بل عميق، مرده أن كل ما تقوم به إيران من أعمال عدوانية يعزى إلى تأثير التضييق الاقتصادي عليها، بالأخص قرار الإدارة الأميركية تصفير وارداتها من النفط. بمعنى أدق، إن كان الهدف هو إلحاق الضرر بالنظام الإيراني، فإننا على الطريق الصحيح. الولايات المتحدة ودول الخليج الكبرى تستطيع تأمين مواقعها من خلال التقنيات الدفاعية، وحتى مع نجاح إيران أو وكلائها في استهداف أراضٍ سعودية، ومنها مدينة أبها قبل يومين، والملاحة في خليج عُمان ومضيق هرمز قبل أيام، فإن التحدي الكبير والحرب الحقيقية هي قوة ضبط النفس تجاه تأثير كل طرف على الآخر. حتى الآن، كل خسائر الولايات المتحدة الأميركية والسعودية والإمارات العربية لا تكافئ بدء عمل عسكري، رغم أن بعضها ألحق إصابات بأبرياء.
أيضاً، لا أعتقد أن الرئيس دونالد ترمب تراجع عن ضربة عسكرية على إيران، الأسبوع الماضي، فقط قبل عشر دقائق من موعدها، كما قيل. واشنطن تعرف ما تفعل، وتقيس جيداً المسافة التي تبعدها عن الضربة الموعودة. الرئيس ترمب لم يجبن، والذين شعروا بالصدمة جراء موقف إدارته السلبي بعدما أسقطت طهران طائرة أميركية مسيّرة، تحمسوا لتأديب إيران بضربة عسكرية، ولو كانت محدودة، لكن في واقع الأمر النظام الثيوقراطي الفاشي في إيران لم يلحقه ضرر منذ نشوئه، قبل 40 عاماً، كما هو اليوم، من إنهاك في الداخل، وتراجع ووهن في أذرعها المسلحة؛ ترمب يضغط بقوة على العرق بدلاً من قطعه وتسييل دمه.
السؤال، أين الحد الذي نتوقف عنده ونقول إن العمل العسكري أولوية لا محالة؟ حالياً، أراه بعيداً. لماذا نفلت ذراع إيران التي تؤلمها من أجل أن نظهر أقوياء بشكل مختلف؟ من الناحية التاريخية، سقطت دول عتيدة جراء محاصرة مدنها الكبرى، منذ حصار قرطاج حتى بغداد، صحيح أن الحصار يبدو عسكرياً شكلياً، لكن لب القوة كانت في منع الغذاء والدواء من دخول القلاع المحصنة المحاصرة.
من جهة أخرى، لماذا ننتظر استفزاز إيران لنا كل يوم؟ في كل حسابات نظام الخميني المعقدة في المنطقة، توجد منطقة رخوة سهلة الحسم نسبياً، وهي اليمن. في اليمن المعادلة بسيطة، شرعية وانقلابيون، حتى تنظيم «القاعدة» الذي كان يتحصن في اليمن نالته ضربات تحالف دعم الشرعية، وخرج من المعادلة. الوضع ليس معقداً، ومتعدد الأطراف، كما في سوريا والعراق، إضافة إلى أن الشرعية مستندة إلى موقف أممي في القرار رقم 2216، ومعها اتفاق استوكهولم. تأمين جنوب السعودية سيغلق باباً من الشرور. اليمن اليوم أكثر من أي وقت سابق، يمثل عامل استقرار في المنطقة العربية، وليس فقط الخليجية، لأنه قوة إيران المتعلقة بالتأثير على الملاحة البحرية، ولأن الحوثي وكيل إيران يضغط على السعودية من خلال مئات من الصواريخ والطائرات المسيّرة، وفي اليمن تثبت إيران أنها تنتهك القانون الدولي بتطويرها برنامج الصواريخ الباليستية. الموقف الأممي المتراخي لم يعد محتملاً، ولنتخيل كيف أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعث برسالة رد إلى الرئيس اليمني يطمئنه أن الأمم المتحدة ترى أنه يمثل الشرعية! وماذا كانت تظن الأمم المتحدة طوال هذه الأعوام؟ الدور الأممي السياسي في اليمن يثبت فشله مرة تلو أخرى، ولن يتغير هذا الواقع إلا بتحرك جاد من القوى الكبرى، وأهمها الولايات المتحدة، لكسر شوكة إيران في اليمن وتحرير جبهة مهمة. الرئيس ترمب قرر بالأمس توجيه المزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران، وألم هذه العقوبات سنسمعه في أعمال عدائية تتصاعد حدتها. إيران تصرخ ألماً، وتدمر ما حولها، إضعافها بالمزيد من العقوبات، وتطهير اليمن من وكيلها الذي يؤدي دور الانتحاري (كاميكازي)، سيعجل بفرض واقع جديد في الخليج، وسيمتد حتى مناطق نفوذ طهران في المنطقة العربية كلها.