تصاعد الحديث، في الآونة الأخيرة، عن صدامات بين القوات الروسية المتمركزة في أكثر من منطقة في سورية، وبين الميليشيات التابعة لإيران. تبعها حديث عن انسحابات لهذه الميليشيات، خصوصاً قوات «حزب الله» اللبناني، من الأراضي السورية. وجرى الإعلان عن تمركز قوات النظام السوري في المناطق التي يجري منها الانسحاب. كما ترافق الحديث مع إنذارات روسية لإيران بضرورة سحب قواتها من سورية، باعتبار أن القوة الوحيدة التي يفترض أن تبقى هي القوات الروسية، ومعها بالطبع القوات السورية. هذه الإنذارات لإيران جرى تطعيمها بإنذارات من إسرائيل الرافضة أي وجود إيراني، والمتمتعة بتغطية روسية وبضوء أخضر لضرب المراكز الإيرانية. ما الذي تغير في الأشهر الأخيرة ليتحول «شهر العسل» الإيراني- الروسي الى ساحة صدام قابلة للانفجار، وهل الأمر مستغرب؟ أم أن سياقه طبيعي بحكم تصادم مصالح قوتي احتلال لسورية؟
خلال السنوات السابقة، ولأشهر خلت، كانت روسيا، الراعي الأول لنظام الأسد والمدافع عن وجوده، منخرطة في معركة ما يسمى بالإرهاب، سواء على يد «داعش» أم غيره من التنظيمات. وكانت موسكو تدرك أن دخول جيشها مباشرة في حرب ضد التنظيمات الإرهابية، بما يشبه حرب العصابات، سيكلفها الكثير من الضحايا. فدور موسكو يتمحور حول القصف وتدمير المدن وتهجير السكان. أما التلاحم المباشر مع الإرهاب فهو على عاتق الميليشيات التابعة لإيران أو لنظام دمشق. كانت هذه الميليشيات حاجة روسية، وأداة توظيف ثمينة في المعركة ضد «داعش»، لذا لم يكن غريباً أن تتولى روسيا الدفاع عن هذه الميليشيات، وتراها شرعية، خصوصاً أن النظام السوري يرعاها ويشدد على بقائها. لا شك في أن هذه الميليشيات اضطلعت بدور مهم في محاربة التنظيمات الإرهابية، وفي تنفيذ مخططات تهجير السكان السوريين وإعادة رسم الديمغرافيا السورية، بما يؤدي الى تركيبة سورية مختلفة عن تلك التي كانت قائمة قبل الحرب. وهي مهمة أُنجزت الى حد كبير.
في الأشهر الأخيرة، باتت سورية عملياً في عهدة الكبار من الدول، خصوصاً الولايات المتحدة وروسيا. فانحصر النقاش حول مستقبل الأزمة السورية بما تقرره هاتان الدولتان، فتعطي ما تراه مناسباً وتحجب ما لا تريده عن سائر القوى الإقليمية الموجودة على الأرض السورية. يتركز النقاش، السري منه والعلني، على الدور الإيراني بشكل خاص. فإيران، خلافاً لتركيا أو إسرائيل، تتمركز ومعها ميليشياتها في الداخل السوري، وفي الساحل، وعلى الحدود اللبنانية- السورية، وتسعى لتمد أذرعها الى الحدود الإسرائيلية- السورية. في نقاش يدور عالمياً حول بدء إعمار سورية والشروط الموضوعة لذلك، وعلى رأسها انسحاب جميع القوى الأجنبية من سورية، ما عدا قوات موسكو، يصبح من الطبيعي التركيز على إيران وميليشياتها.
في هذه المحطة، لم تعد روسيا ترى في إيران حاجة سورية، بل ترى فيها قوة احتلال منافسة لها وتريد مقاسمتها السلطة والمنافع السورية. حددت روسيا هدفاً أولياً يتصل بطلب انسحاب الميليشيات الإيرانية، وترجمت ذلك بدخول قوات روسية الى مناطق وجود هذه الميليشيات، وصولاً الى الحدود اللبنانية. كما جرى الحديث في وسائل الإعلام عن مصادمات مسلحة وسقوط قتلى بين هذه الميليشيات. تعرف روسيا أن إيران صاحبة أطماع في سورية لا تقل عن أطماعها نفسها، وأن التعايش السلمي واقتسام مناطق النفوذ على الأرض أو في السلطة، أمر قد يكون من المستحيل الوصول اليه. وبما أن روسيا تعتبر نفسها القوة الأكبر، وصاحبة النفوذ الأساسي في السلطة السياسية والعسكرية، وبما ان الوظيفة الإيرانية قد استنفد دورها، فإن الأوان حان لتنفرد بالهيمنة على سورية، سياسياً وعسكرياً.
هل ستستجيب إيران الى الطلبات بانسحابها من سورية؟ الأجوبة الصادرة عن القيادات الإيرانية ترفض أي انسحاب من سورية، وتعتبر وجودها شرعياً، وأنها استثمرت بمئات البلايين في الأراضي السورية، ودفعت آلاف القتلى دفاعاً عن النظام. لم ترد روسيا حتى الآن بأي موقف عملي على الرفض الإيراني، فيما تعلن الميليشيات أنها تنسحب فقط بناء لطلبات النظام، وهو موقف عملي يشي بقرب هذا الانسحاب، لأن النظام السوري يصعب عليه رد الطلب الروسي له بإعطاء قرار الانسحاب لهذه الميليشيات الإيرانية. فما الذي يمكن أن يحصل لتنسحب إيران؟ لا شك في أن دخول القوات الروسية في صدام مسلح مع قوات الحرس الثوري الإيراني هو أمر مستبعد. فالبديل الروسي جاهز من خلال الاتفاقات المعقودة بين روسيا وإسرائيل حول السماح للقوات الإسرائيلية بقصف المراكز الإيرانية في سورية، مع تجنب قصف مواقع النظام السوري.
هذا السيناريو ليس احتمالا، فتنفيذه جارٍ منذ عدة أشهر، من دون أن يرد نظام طهران على الانتهاكات المتوالية لمراكزه. فإذا كانت الحرب الروسية- الإيرانية المباشرة مستبعدة، فإن حرباً أخرى إسرائيلية إيرانية مندلعة بشكل فعلي، والاحتملات في شأن تطورها تبقى طي المستقبل.