Site icon IMLebanon

الليرة مُستقرّة وتعميم مصرف لبنان يُكافح التهرّب الضريبي ويزيد مداخيل الخزينة

 

 

الدفاع عن سياسة الثبات النقدي هو واجب على كل مسؤول يتعاطى الشأن العام. هذا الكلام نابع من مبدأ أن ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية هو العنصر الأساسي في الأمن الإجتماعي إذ لا يُعقل أن لا يعرف رب عائلة إذا ما كان مدخوله الشهري سيكفي لسدّ حاجات عائلته من الأكل والشرب والسكن والطبابة والتعليم! بأي عذر أو حجّة علمية نرى البعض يطرحون خفض سعر صرف الليرة لمواجهة المشاكل المالية للدّولة اللبنانية؟ كيف يُمكن تبرير خفض سعر صرف الليرة لربّ عائلة يُريد إطعام عائلته ولم يعد مدخوله يكفيه؟

الثبات النقدي والأمن الإجتماعي

تنصّ النظرية الإقتصادية على أن «العمّلة تعكس قوّة الإقتصاد»، فكلما كان الإقتصاد قويًا كانت العمّلة قوية والعكس بالعكس. عند خروج لبنان من الحرب الأهلية، كان الإقتصاد اللبناني في حال يُرثى لها أدّت إلى إنهيار الليرة اللبنانية في أوائل التسعينات! هذا الأمر كان له تداعيات إجتماعية كارثية لا يذكرها إلا من عايش تلك الفترة.

مع تبوؤ رياض سلامة سدّة حاكمية مصرف لبنان وبعد تحليل مُعمّق للوضع الإقتصادي، المالي والنقدي في لبنان، إرتئ سلامة أنه لا يُمكن إعادة بناء الإقتصاد اللبناني إلا إذا كان هناك ثقة بالليرة اللبنانية وبالقطاع المصرفي اللبناني، المموّل الأساسي للإقتصاد.

خبرة سلامة المصرفية قبل تبوئه سدّة الحاكمية جعلت من تنظيم القطاع المصرفي أمرًا سهلاً نوعًا ما حيث أصدر مئات التعاميم في هذا الإتجاه، هدفت مُعظمها (أي التعاميم) إلى حماية الودائع وتحسين ملاءة القطاع المصرفي وإندماجه بالمنظومة المصرفية العالمية.

أمّا على صعيد الليرة اللبنانية، فقد كانت الأمور أكثر تعقيدًا إذ أن الثقة بالليرة اللبنانية لا يُمكن أن تستمر الا من خلال ثبات سعر الصرف وهو أمر مُستحيل مع الوضع الإقتصادي أنذاك. لذا عمد سلامة إلى إعطاء الإحتياط من العملات الأجنبية نفس دور الإقتصاد على الليرة اللبنانية وأصبح ربط الليرة بإحتياط كبير هو الضمانة الإستقرار سعر صرف الليرة بإنتظار أن تعيد السياسات المالية للحكومات المُتعاقبة بناء الإقتصاد المُهدّم نتيجة الحرب.

الأحداث الأمنية والسياسية التي عصفت بلبنان منذ إتفاق الطائف وحتى يومنا هذا (عناقيد الغضب، إغتيال الرئيس رفيق الحريري، عدوان تموّز، أحداث 7 أيار، الفراغ الرئاسي الأول بعد الحرب، الأزمة السورية، التفجيرات في العام 2013، الفراغ الرئاسي الثاني في العام 2014، إحتلال داعش لسلسة لبنان الشرقية…) منعت من تنفيذ سياسات إقتصادية تسمح ببناء إقتصاد مُنتجّ.

هذا الأمر لم يمنع سلامة من الإستمرار في تكوين إحتياط من العملات الأجنبية وبالتالي تثبيت سعر صرف الليرة كما وسعر الفائدة خلال عقدين ونيّف. أضف إلى ذلك أن القطاع المصرفي اللبناني أصبح يُشكّل مركزاً من أهم المراكز المالية العالمية.

على هذا الأساس إستطاع ملايين اللبنانيين العيش بطمأنينة بحكم أن قيمة مداخيلهم محفوظة وأصبحوا يدخرون بالليرة اللبنانية التي أصبحت ملاذاً آمناً بالنسبة لهم. كما أن ثبات سعر الفائدة خلال العقدين الماضيين سمح للشركات بالإقتراض من المصارف بكلفة ثابتة وهو أمر أساسي بالنسبة للشركات.

في الدول ذات الإقتصادات المُتطوّرة، الثبات النقدي مؤمّن من خلال الماكينة الإقتصادية على مثال الولايات المُتحدة الأميركية وبريطانيا والإتحاد الأوروبي. فالثبات في النمو الإقتصادي الذي تعيشه هذه الإقتصادات هو مفتاح هذا الثبات. أمّا في لبنان فالتغيرات التي تعتري النمو الإقتصادي تجعل من الثبات النقدي بواسطة الماكينة الإقتصادية شبه مُستحيل!

وبالنظر إلى الإحتجاجات الشعبية التي تعصف ببعض البلدان، نرى أن إنخفاض العمّلة (إرتفاع الأسعار) هو السبب الأساسي بحكم أن الأمن الإجتماعي يغيب مع إنخفاض قيمة العمّلة الوطنية.

ماذا الذي تغيّر اليوم؟

ما نراه اليوم من مشاكل في الأسواق هو نتاج عدّة عوامل أدّت إلى زيادة الطلب على الدولار الأميركي بشكل أصبح يفرض إستخدام قسم من إحتياط مصرف لبنان من الدولار الأميركي. ونذكر من هذه العوامل:

أولا – غياب السياسات المالية للحكومات المُتعاقبة مما أدّى إلى خلق إقتصاد شبه ريعي يعتمد بدرجة أولى على الخدمات وعلى عائدات الودائع. وقد ذكر تقرير البنك الدوّلي الصادر في 15/10/2017 أن لبنان وخلال أعوام المجد 2007-2010 عمد إلى الإستثمار في قطاعات ذات قيمة مُضافة منخفضة في الإقتصاد (أي الخدمات بالدرجة الأولى) على حساب القطاعات ذات قيمة مضافة عالية في الإقتصاد (أي الصناعة والزراعة). ويعود هذا الأمر إلى غياب السياسات الحكومية التي كان يتوجّب عليها توجيه الإستثمارات بواسطة الأداة الضريبية.

هذا الواقع جعل الإقتصاد اللبناني يعتمد على الخدمات (بما فيها السياحة) وعلى تحاويل المغتربين اللبنانيين. ومع بدء الأزمة السورية ونظرًا إلى الترابط العضوي بين الإقتصادين اللبناني والسوري، أخذ الإقتصاد اللبناني بالتآكل وبالتالي لم تعد الضرائب على النشاط الإقتصادي كافية لتغطية الإنفاق مما خلق عجزًا مُزمنًا وزاد من إستدانة الدوّلة اللبنانية خصوصًا بالعملة الأجنبية وبالتالي الطلب على الدولار الأميركي.

ثانيًا – بسبب ضعف الماكينة الإقتصادية في لبنان، أخذ اللبنانيون يزيدون من إستيراد البضائع بحكم أن الشركات اللبنانية لم تعد تستطيع سدّ حاجة السوق من البضائع. وهذا الأمر فرض خروج ما بين 15 إلى 20 مليار دولار أميركي سنويًا من لبنان بين الأعوام 2010 إلى 2018!

ثالثًا – الفساد الذي أخذ أبعادًا كبيرة في العقدين الأخريين مع خسائر هائلة على خزينة الدوّلة اللبنانية، من دون أن يكون هناك إجراءات حكومية للجم هذا الفساد. وهذا الأمر جعل من عجز الموازنة أكبر وزاد من الطلب على الدولار الأميركي.

رابعًا – الخلافات السياسة التي منعت تنفيذ أي خطّة تم وضعها في الماضي حتى في أحلك الظروف الإقتصادية والمالية (حادثة قبرشمون). فالمعروف أن القوى السياسية في لبنان تتبع مبدأ التعطيل في كل الملفات إذا ما كان هناك خلافات سياسية بينها.

خامسًا- الدعم المُقدّم من الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان والذي أصبح بسبب فظاعته، عقدة أمام تحرير أموال مؤتمر سيدر البالغة 11 مليار دولار. هذا الدعم هو دعم بالدولار الأميركي وبسبب وضع المالية العامّة يتمّ إستدانته من الأسواق المالية مع فوائد مما يعني طلباً على الدولار الأميركي.

سادسًا – تردّي المالية العامّة وغياب الإصلاحات أديا إلى خفض تصنيف لبنان الإئتماني الذي بدوّره رفع الفوائد على الدين العام إلى درجة أصبح هناك حاجة متزايدة للدولار الأميركي لدفع مستحقات الدين العام بالعملة الأجنبية.

سابعًا – ما حصل في شهر آب من فوضى الشائعات عن إفلاس الدوّلة اللبنانية، دفع اللبنانيين إلى سحب كميات كبيرة من الدولار الأميركي من المصارف ووضعها في منازلهم (الخوف على الأمن الإجتماعي!). وهذا الأمر زاد من الطلب على الدولار الأميركي أكثر.

ثامنًا – مع شحّ الدولار في الأسواق، أخذ العديد من التجار والصرافين وحتى المواطنين بالتجارة بالدولار الأميركي، حتى أن مواقف السيارات أصبحت تسعّر بالدولار ويتم بيع هذه الدولارات إلى الصرافين…

ما قامت به المصارف هو لجم العرض من الدولارات خوفًا على إحتياطاتها وبالتالي خوفًا على إحتياط مصرف لبنان. هذا الأخير ومع المشاكل التي تعترض المالية العامّة أصبح يدفع إستحقاقات الدوّلة اللبنانية وهو أمر غير إعتيادي ومرفوض في الأسواق المالية ولدى وكالات التصنيف الإئتماني.

ولولا الإحتياط الذي كوّنه رياض سلامة خلال أكثر من عقدين ونصف، لما كان لبنان صمد كل هذه الفترة!

مصرف لبنان والفوائد

أكثر من مرّة سمعنا على لسان بعض المسؤولين وحتى بعض الإقتصاديين، هجومًا لاذعًا على مصرف لبنان وحاكمه بسبب الفوائد المُرتفعة. ما يجهله هؤلاء أن سعر الفائدة (على الأمد القصير) هي إحدى أدوات السياسة النقدية وهي مُستخدمة في كل دول العالم وتهدف بالدرجة الأولى إلى محاربة التضخم وبالدرجة الثانية تحفيز الإقتصاد. أمّا إرتفاع الفائدة على الآمد البعيد فسببها سندات الخزينة!

ومع وضع المالية العامّة ووضع الإقتصاد اللبناني، لا يُمكن لمصرف لبنان إلا رفع الفوائد وإلا تحلّ الكارثة. أمّا عن الإستثمار في الإقتصاد، فيجب معرفة أن مصرف لبنان يؤمّن رزماً تحفيزية (منذ العام 2013) للعديد من القطاعات الإنتاجية بأسعار فائدة لا تتخطّى الـ 5.9% وهي بعيدة جدًا عن سعر فائدة السوق الحالي، وما النمو الإقتصادي في السنين الأخيرة إلا نتاج هذه الرزم التحفيزية.

أيضًا وبالنظر إلى البيانات التاريخية، نرى أنه حين كان سعر فائدة السوق لا يتعدّى الـ 5%، كان اللبنانيون يستثمرون في تركيا (600 مليون دولار أميركي في العام 2014!) وأربيل وقبرص. لذا الإعتقاد أن خفض الفوائد سيؤدّي إلى حل المُشكلة هو إعتقاد خاطئ من منطلق أن المُشكلة هي في الإطار السياسي، التشريعي والضريبي، ناهيك عن الفساد الذي يُعتبر العدوّ الأول للإستثمارات (تصريح دوكان).

مصرف لبنان والدولار

يبلغ إحتياط مصرف لبنان 38.6 مليار دولار أميركي من العملات الأجنبية و15 مليار دولار أميركي من الذهب. إلا أن مصرف لبنان ليس مسؤول عن الدولار في الأسواق بحكم أن الدولار هو عملة إحتياط وهو من مسؤولية الإحتياطي الفديرالي الأميركي. ما هو مسؤولاً عنه مصرف لبنان بحسب قانون النقد والتسليف هو ثبات الليرة اللبنانية والدولارات الموجودة في الإحتياط هي من تؤمّن هذا الثبات بغياب إقتصاد قوي.

التعميم الذي أصدره سلامة أخيرًا ويحمل الرقم «القرار الوسيط رقم 13113 تاريخ 30/9/2019» هو تعميم موجّه إلى المصارف وينصّ على تعديل القرار الأساسي رقم 7144 تاريخ 28/10/1998 (الاعتمادات والبوالص المستندية) المرفق بالتعميم الأساسي رقم 52 إذًا بالشكل مصرف لبنان إلتزم صلاحياته المُعطاة له من قبل قانون النقد والتسليف وتوجّه إلى المصارف عبر تقديم تسهيلات لهم شرط أن تكون لتمويل شراء المواد الأساسية التي تدّخل في صلب الأمن الإجتماعي أي المحروقات، القمح والأدوية.

تداعيات هذا القرار كانت إجتماعية بإمتياز كما سبق وذكرنا لكن كان لها تداعيات إيجابية على الصعيد الإقتصادي والمالي والنقدي:

أولاً – تمكّن مصرف لبنان من خلال هذه العملية من السيطّرة إلى حدٍ بعيد على الطلب على الدولار الأميركي في السوق اللبنانية من خلال تنظيمه وإعادته إلى القنوات المصرفية. وهذا الأمر يُخفّف حكمًا الطلب على الدولار لدى الصيارفة نظرًا إلى حجم سوق المشتريات للمواد الأساسية.

ثانيًا – إستطاع هذا التعميم أن يلجم التهرّب الضريبي من خلال تفادي التعاطي بالكاش والتعامل عبر القنوات المصرفية مما يعني أن عائدات الخزينة ستتحسّن إلزاميًا. وكنتيجة لهذا الأمر إرتفعت حكمًا أسعار سندات الخزينة اللبنانية أي إنخفضت كلفة الدين العام.

ثالثًا – زيادة كلفة الإستحصال على الدولار الأميركي من خارج هذه القنوات المصرفية، يؤدّي حكمًا إلى لجم الإستيراد (علّة العلل) والذي يُعتبر المسؤول الأول عن تدهور الوضع المالي للدوّلة اللبنانية.

الليرة مُستقرّة وستبقى مُستقرّة

إن الإحتياط المتوافر في مصرف لبنان والسياسة الإحترازية التي يتبعها سلامة تؤكّد سلامة الليرة اللبنانية على الرغم من سوق الصيارفة الذي تطوّر أخيرًا. ويبلغ عدد المرخصين من الصيارفة ما يُقارب الـ 300 أمّا الأخرون فهم غير مرخصين بالإضافة إلى مواطنين أصبحوا يُتاجرون بالدولار عن غير وجه حق.

وعملا بالمرسوم الإشتراعي 73/83 وعملاً بقانون النقد والتسليف، يتوجّب على القضاء اللبناني ملاحقة كل من يُتاجر بالدولار الأميركي ولا يحمل رخصة. هذا الأمر هو أمر حيوي وأساسي للحفاظ على الكيان اللبناني وحفاظًا على هيبة الدوّلة. على هذا الصعيد، نُشدّد أن الغطاء السياسي المؤمّن لبعض المخالفين هو أمر غير مقبول لأن الأمر أصبح قضية مصير وطن