الهوّة تتعمّق بين الأجور… والحدّ الأدنى أصبح “أدنى” بكثير
لغاية الأمس القريب، لم يكن هناك إختلاف بين الليرة والدولار بـ”الدفع” وحده إنما بـ”القبض” أيضاً. فلا فرق إذا كانت قيمة الراتب ألف دولار أميركي أم مليون وخمسمئة ألف ليرة. أما اليوم ومع تدهور سعر الصرف فقد اختلّ التوازن، وأصبحت المعادلة المصطنعة مسبّباً أساسياً لمشاكل إقتصادية وإجتماعية لا تُعدّ ولا تُحصى.
رامي، شاب عشريني متخرج من الكلية الفندقية، يعمل في أحد مطاعم العاصمة ويتقاضى بدلاً شهرياً بقيمة مليون و200 ألف ليرة. الراتب الذي كان يعادل 800 دولار أميركي لم يعد يساوي اليوم فعلياً أكثر من 521 دولاراً. وبرأيه فإن “هذا المبلغ لا يكفيه لتأمين الأكل والشرب ودفع المواصلات”.
مثلها مثل كل المسائل العالقة، تُركت قضية الإختلال في الأجور لتحل نفسها بنفسها، من دون اتخاذ المسؤولين عن السياسات النقدية والمالية أي خطوة إيجابية. وهو ما فتح الباب على مؤشر الحد الأدنى للأجور المحدد بـ 675 الف ليرة، وما إذا كان لا يزال صالحاً بعدما أصبح يساوي 290 دولاراً أميركياً أو ما يعادل 9 دولارات يومياً.
لا تعديل جدّياً
رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة لا تقل عن انخفاض قيمة صرف العملة المحلية ضرورة قصوى، لكن دونها عقبات كثيرة. فالشرط لإعادة التوازن لشريحة كبيرة من العمال هو “إعتراف الحكومة بحقيقة تغيّر سعر الصرف الرسمي أولاً، ومن ثم تخفيضه إلى 2000 ليرة أو أكثر بما يتناسب مع سعر السوق ثانياً”، يقول الباحث في قضايا التنمية نبيل حسن، ويرى أن “المسؤولين لديهم مصلحة في عدم تغيير سعر الصرف، وهو ما يُقفل الباب أمام أي عملية تعديل جدية يستفيد منها المواطنون عموماً وأصحاب الدخل البسيط خصوصاً”.
تغيير سعر الصرف سيؤثر سلباً بحسب بعض الخبراء على ثلاثة أمور، وهي: ثقة المجتمع الدولي، المصارف، والتضخم. لكن التمحيص أكثر بالحجج الموضوعة يظهرها فارغة من أي مضمون جدي. فمختلف الدول فقدت ثقتها بشكل كلي بالنظام اللبناني حكومة وسياسيين منذ أكثر من سنتين، وتحديداً مع عجز المسؤولين اللبنانيين عن الإلتزام بشروط مؤتمر “سيدر” الذي كان في وقتها “الأوكسجين للإقتصاد”، وفي ما خص المصارف فإن كل السياسات ما زالت تتمحور حول عدم تعريضها لأي خسارة أو لعدم تحميلها الجزء الاكبر من مسؤولية ما آلت إليه الأمور. وبما يتعلّق بالتضخّم فهو حاصل حكماً، والخوف من تحويل الزيادة في الكتلة النقدية بالليرة إلى دولار لن تكون له انعكاسات سلبية كبيرة في حال تعادل السعر الرسمي مع سعر السوق.
الفوارق الإجتماعية تتعمّق
هذا الواقع المستجدّ بدأ يعمّق الفوارق الإجتماعية ويزيد من مأساة العمالة الأجنبية الموجودة في لبنان. فالأغلبية الساحقة من العمال الأجانب في مختلف القطاعات كانت تتقاضى رواتبها بالدولار أو ما يعادل قيمتها بالليرة اللبنانية، نظراً لسهولة تحويل المبالغ إلى دولار وإرسالها إلى أسرهم في الخارج. إلا انه مع انخفاض قيمة العملة الوطنية تحولت رواتبهم “أوتوماتيكياً” إلى الليرة من دون أي زيادة لتغطية الفرق. وهو ما أوقعهم بخسائر كبيرة واضطُر قسم كبير منهم إلى مغادرة لبنان. وبحسب حسن فإنه “طالما الدولة تغضّ الطرف عن أرباب العمل، فإنهم يلجأون الى ممارسات تُعزّز ارباحهم على حساب شقاء عمالهم، سواء كانوا لبنانيين أم أجانب، وهذه ظاهرة خطيرة جداً في المجتمعات، وتدفع إلى الكثير من المشاكل”.
العمّال يهجرون البناء
إحدى أبرز هذه المشاكل بدأت تظهر في قطاع البناء وصيانة المنازل. فهجَر العدد الأكبر من العمال السوريين هذا القطاع بعد تراجع النشاط من جهة وتوقف أصحاب العمل عن الدفع بالدولار من جهة ثانية. على الرغم من كل الإنتقادات التي تطاول العمالة السورية تحديداً في لبنان، إلا انها كانت تُشكّل حوالى 90 في المئة من الرأسمال البشري، وبرأي رئيس جمعية منشئي وتجار الابنية في لبنان إيلي صوما، فإن “هذا القطاع سيشهد في السنوات القادمة تغيرات كبيرة، من حيث تراجع الإنتاجية وارتفاع الكلفة”. فلبنان، بحسب صوما، “لم يعد ينتج العدد الكافي من العمال لتلبية متطلبات وحاجات قطاع الإنشاءات، وما يتّصل بها من مهن وحرف “كالتبليط والتوريق والاعمال السنكرية والتمديدات الكهربائية وغيرها الكثير. فالعامل اللبناني عادة ما يكون المتعهد الذي يعمل معه عشرات لا بل المئات من العمال السوريين”.
نتائج النزف المستمر في قطاع البناء على الصعيد العام ستظهر أكثر مع عودة العمران و”عندها لن نجد من يقوم بالعمالة المطلوبة، وإذا صدف أن وجدناها، فستكون بأكلاف مرتفعة جداً ستنعكس علينا وعلى المواطنين”، يختم صوما.
صندوق التنمية مكبّل
في الوقت الذي يبدو فيه البلد بأمسّ الحاجة إلى المساعدة في خلق فرص عمل جديدة يظهر ان مختلف الصناديق ومؤسسات التنمية مكبّلة اليدين “ففي الفترة الحالية تواجه مختلف المشاريع والبرامج التي تهدف إلى التنمية وخلق فرص عمل في المناطق صعوبات كبيرة، حتى ان إمكانية المضي قدماً ببعضها اصبح صعباً نتيجة القيود المصرفية والأوضاع غير المستقرة”، توضح مديرة مكوّن التنمية المحلية في صندوق التنمية الإقتصادية والإجتماعية ديما صادر. بدوره، يلفت مدير العمليات في “الصندوق” باتريك عتمه إلى انه “بعد توقف المصارف عن عمليات الإقراض نتيجة شحّ السيولة وعدم استقرار الوضع النقدي والاقتصادي، عاد بعض المصارف أخيراً ليستأنف عمليات الإقراض وفقاً لشروط محددة، وفي إطار برامج مموّلة من الجهات المانحة تقدّم حوافز لإعادة تنشيط عملية الإقراض”.
إختلال التوازن الإجتماعي نتجية فرق العملة وإزدواجية الدفع بين الليرة والدولار لن يكون خطأ عرضياً إنما بنيوياً، سلبياته ستمتد إلى الأعوام القادمة، خصوصاً إذا أُهمل ولم يُعَر العناية المطلوبة.